مع انطلاق تعبير (اللغة الخشبية) قبل نحو عشرين سنة، كان هناك سؤال خجول لم يجد فرصة الخروج إلى السطح في فورة استخدام التعبير : كيف يمكن للغة ما أن تكون خشبية إذا كان القصد هو الجمود وفقدان قابلية التطور ؟ مثل هذا الحال ينطبق على لغات أقوام تعيش منعزلة عن العالم بالمعنى الكامل للكلمة، فلا هي تلتقي مع مجموعات بشرية سواها، ولا هي تتعامل مع أي من وسائل الاتصال. ذلك أن أي تداخل بين مجموعتين بشريتين سيجعل لغتيهما تتشاركان في عدد – كبر أم صغر – من التسميات والمصطلحات. فهل نجد مثل تلك الأقوام المنعزلة في عصر يتباهى بأنه جعل العالم قرية واحدة؟
ربما أنه قد يحدث في حالات نادرة مع مجموعات بشرية صغيرة تعيش في مناطق بعيدة عن المدنية، وتلك الحالات تتناقلها الصحف ووسائل الإعلام حدثاً طريفاً كغريب الاكتشافات .غير أن هذا لا يمكن حدوثه مع شعب يكاد يصل تعداده إلى أربعمئة مليون إنسان يعيش في قلب العالم، ولغته تمتلك حيوية فائقة وقدرة على استيعاب كل جديد في المعارف البشرية، وقد كانت يوماً لغة الثقافة والمعرفة التي نقلت الآداب والفلسفة والعلوم من عصور ما قبل الميلاد إلى عصر النهضة الأوروبية، وما زالت لغات الغرب والشرق تستخدم الكثير من تسمياتها.
المسألة ليست مسألة اللغة كوعاء حامل للثقافة والفكر، وإنما هي مسألة الثقافة والفكر ذاتهما. هما ما يراد تغييره بحجة التطور، وتهمة الجمود، ولأجل ذلك ينشط من ينشط لتبديل قناعات، وتشويه حقائق، وتعميم مسلمات جديدة لن تملك فرصة الحياة طالما هناك فكر يحلل ويستنتج، وبوصلة لا تخطيء التوجه. وإذا كان من ميزة عصرنا أنه عصر الاتصال، فإن من مصيبته أن جل وسائل الاتصال الجماهيري الكبرى في العالم تهيمن عليها ما يسمى (في اللغة الخشبية) قوى الاستغلال العالمية، و لذلك تعبر وسائل الاتصال هذه عن مصالح هذه القوى التي لا تعنيها الحقيقة إلا في حدود ما تخدم مصالحها، وهي لأجل ذلك تستخدم لغات وتعبيرات (غير خشبية).
ثمة حدث ذكرنا به مسلسل (المطران كبوجي) الذي عرض العام الماضي، حين حاول متطوعون – ومنهم المطران المقاوم – ايصال سفن محملة بالمساعدات إلى السكان المحاصرين في قطاع غزة. فتتعرض السفن عمق المياه الدولية لقرصنة مسلحة لا تجد حرجاً من إطلاق النار على مدنيين عزل،سواء أكانوا نساء أورجالاً ، فتقتل من تقتل وتجرح من تجرح، وتلقي بضحايا في البحر، ثم تستولي على حمولة السفن من طعام ودواء ولعب أطفال وتقود ركابها مقيدين بالأغلال إلى المعتقلات. إذا أردنا اختصار ما حصل سنتحدث عن مليون ونصف مليون إنسان محاصرين من البر والبحر منذ سنوات، يمنع عنهم الغذاء والدواء وحليب الأطفال وما يمكن أن يبنوا به بيوتهم المدمرة بفعل حرب إجرامية. يلقى وضعهم المأساوي صداه لدى ضمائر متنوعة الجنسيات.
(اللغة الخشبية) تصف الحدث بأنه قرصنة وجريمة حرب تمت في المياه الدولية. فكيف وصفت اللغات (المرنة) الحدث ذاته ؟..ربما لا تزال ذاكرة كثيرين تحفظ الابتكارات اللغوية (للغات غير خشبية) التي تراوحت بين الحديث عن القلق مما حصل وكأنه حادث اصطدام مروري غير مقصود، إلى الحديث عن استخدام غير متكافئ للقوة، وصولاً إلى اعتبار أنصار السلام في السفن إرهابيين، وبالتالي يصبح من أطلق النار عليهم مكافحاً ضد الإرهاب .
الأمثلة على استخدام لغات (غير خشبية) أكثر من أن تحصى .غير أن لها جميعاً الدلالة ذاتها .وربما الغاية ذاتها.
إضاءات – سعد القاسم