ثورة اون لاين – بقلم رئيس التحرير علي قاسم:
يواصل الخطاب الأميركي تعرّجه من أقصى اليمين إلى ذروة اليسار، وفي أحيان كثيرة يكاد يخرج من جلدته في تماهيه مع التكتيكات الآنية التي تمليها ظروف لا تنتمي إلى الحقبة الأميركية وتنتج خطاباً لا علاقة له بالأصل الأميركي ذاته.
وفيما يستصعب الكثيرون تفسير تلك الحالة من العرج المتعمد والمقصود لذاته، فإن الالتواءات السياسية التي تسبقه تقدم ما يفي بالغرض، ويمكن من خلالها الاستدلال على ما سيأتي بعدها من عرج في الخطاب الأميركي كله، وليس آخرها ما جرى في الجلسة التشاورية لمؤتمر جنيف حين تمسكت بسقف سلبيتها تجاه مشاركة إيران مقابل حرصها على مفاوضة الإرهابيين والمتطرفين من جهة، لتعود وتمارس دوراً انتقادياً يتجاوز خطاب الكثير من الدول في محاكاتها للموقف من دعم الإرهاب ودور دول المنطقة في وقف تسلل الإرهابيين ودعمهم من جهة ثانية.
بعض المواقف المتسرعة تحاول أن تقدم قراءة متعجلة، وترى فيما يجري انقلاباً في الموقف الأميركي، وتبني في تلك القراءة على ما تراكم من تجارب أفضت في النهاية إلى اعتماد خطاب أميركي في اتجاه واحد، دون أن تأخذ بالحسبان ما يجري من تعديل في أجواء المناخ الدولي، وهو ما تتكئ عليه أميركا لتبرير ذلك العرج وتسويغ تلك الالتواءات رغم ما تقدمه من نفاق مزدوج ونافر، وأحياناً يكون حمّال أوجه، حتى تاه الكثيرون في قراءة المقاربات الأميركية، وتحديداً بعد أن خلصت إلى أن ما يمسي عليه الأميركي ليس بالضرورة هو ذاته ما يستيقظ عليه.. وما يراه صالحاً في لحظة قد يكون محظوراً النقاش فيه في لحظة أخرى.
الأدهى من ذلك أن تعتمد أميركا على تلك الاستنتاجات التي تخلص إليها تلك المواقف المتسرعة، وتبني على الأمر مقتضاه، وترسم وفقاً لدوائر الارتداد على سطحه ما يمكن أن يقدم لها مزيداً من الوقت، ويخفف من الغلواء لدى أدواتها في الإصرار على المجاهرة بما لا تريد أميركا أن تظهره مرحلياً، بما في ذلك محاولة التخفي خلف أصابعها في مسألة العرقلة التي تمارسها لتأخير المؤتمر الدولي، وحتى لترحيله من جديد إلى مواعيد لاحقة.
لا نعتقد أن الأمر يحتاج إلى فك طلاسم رغم ما تقدمه المقاربة الأميركية من أنواع إضافية منها، ونستطيع أن نجزم أن المسألة برمّتها في سياق ردة أميركية باتجاه الاعتماد على التنظيمات الإرهابية لتعويض فشلها السياسي، ولـتأخير إقرارها بتراجع نفوذها على المسرح العالمي، حيث توقيت الطلب الأميركي المريب بوقف دعم وتمويل «داعش» و«النصرة» والجمع بينهما في سلة واحدة لا يمكن تبرئته من سياق المحاولة ذاتها التي مارستها في اللقاء التشاوري، من خلال التصنيف الذي سيأتي لاحقاً على أنهما تنظيمان إرهابيان ينتميان للقاعدة، وتكون ما يسمى «الجبهة الإسلامية» هي البديل السياسي الجاهز والوكيل الجديد لتنظيم القاعدة على لائحة المفاوضين في جنيف، حيث لا تنتهي سلة تطرف إلا وتكون على الطاولة سلال أخرى جاهزة.
وهو ما يتقاطع مع التسريبات التي تتناقلها وسائل إعلام غربية عن جهد سعودي للتوسط لدى «الجبهة» كي تقبل التفاوض مع الإدارة الأميركية، لتكون حصان طروادة الذي تدخل فيه المؤتمر الدولي، فتعيد خلط الأوراق من نقطة ما قبل الصفر هذه المرة.
لذلك.. العرج الأميركي ليس وقفاً على التواءات مرحلية في السياسة، ولا هي تعرجات آنية في الاستراتيجية، بقدر ما تعني إعادة ترسيم العلاقة مع التنظيمات الإرهابية على أسس مغايرة تقوم في جوهرها على مراجعة التوظيف السابق بعناوينه وتفاصيله على قاعدة الاستفادة من المناخ الضاغط على الأطراف الدولية، تحديداً فيما يتعلق بالمؤتمر الدولي لتكون «الجبهة الإسلامية» الورقة التي سترميها أميركا ومن خلفها السعودية ومن تبقى في ملعب جنيف حتى إشعار آخر.
وريثما تتمكن أميركا من فك طلاسم تلك العلاقة وهضم تداعياتها وتسويق مسوغاتها لدى الداخل الأميركي، تكون قد أجرت تدويراً كاملاً للزاويا، ولن تكتفي حينها بالعرقلة، بل ستتحرك نحو تكتيك مختلف، حامله وجود تلك التنظيمات إلى حين تأخذ أدواتها في المنطقة كامل الوقت المتاح قبل أن تعلن إفلاسها من أي تعديل في الكفة التي أنهت دورة نوسانها واختارت اتجاه رجحانها منذ وقت طويل.
a.ka667@yahoo.com