تخطى التلفزيون العربي السوري يوم الجمعة الماضي تقليداً راسخاً فحاور ضيوفه، في فترة بث صباحي مباشر، داخل غرفة الكونترول التي تتحكم في الاستوديو، لا داخل الاستوديو ذاته. مانحاً الفترة دفئاً حميماً يتناسب مع الحدث المحتفى به، وهو مرور العقد السادس لانطلاق البث التلفزيوني في سورية.
ففي مثل ذلك اليوم قبل واحد وستين سنة تماماً كان عشرات المهندسين والفنيين والعمال يحثون الخطا لإنجاز أستوديو الإرسال التلفزيوني الأول على قمة جبل قاسيون استعداداً للحظة البث التي تقرر أن تكون عند الساعة الثامنة من مساء يوم الثالث والعشرين من تموز، وهي اللحظة ذاتها التي كان سيبدأ فيها البث التلفزيوني من القاهرة عاصمة الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تجمع يومذاك سورية ومصر في دولة واحدة، فكان التلفزيون في كلا الإقليمين الشمالي والجنوبي يحمل اسم التلفزيون العربي مضافاً إليه اسم دمشق أو القاهرة.
كان التلفزيون في سورية أحد إنجازات دولة الوحدة، مثله في ذلك مثل وزارة الثقافة، وكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وسواهما من الهيئات الثقافية والعلمية. وقد جاء قرار إحداثه في غمرة النضال الوطني والقومي لاسترداد الحقوق المنهوبة، وتأكيد السيادة الوطنية. فإثر استرداد قناة السويس، ومع بدء التحضيرات للعدوان الثلاثي على مصر شنت التلفزيونات الغربية المؤيدة للعدوان هجوماً شرساً على مصر وعلى الرئيس جمال عبد الناصر خاصة، متهمة إياه – كالعادة- ومنذ تلك الأيام، بالإرهاب. وهو ما دفع بالزعيم الراحل إلى طلب إعداد دراسة لإنشاء تلفزيون وطني إدراكاً منه لأهمية هذا الجهاز الإعلامي في مواجهة التضليل والتزييف الذي يقوم به الإعلام المعادي، وفي تنمية الوعي القومي، ونشر الثقافة والمعرفة. وبعد سنتين كانت مشاعر السوريين وأحاسيسهم القومية المتدفقة التي تجلت بأسمى صورها خلال العدوان الثلاثي على مصر، قد صنعت دولة الوحدة، فكان أمراً حتمياً أن يبدأ الإرسال التلفزيوني من القاهرة ودمشق في اللحظة ذاتها.
وقع الخيار على الإعلامي والمثقف العريق صباح قباني ليؤسس التلفزيون في سورية، وليكون أول مدير له، وكان هذا الخيار بحدّ ذاته عنواناً يؤشر لتوجه هذا الوافد الجديد، وهو ما حصل فعلاً حين بدأ الناس يشاهدون على الشاشات الفضية في بيوتهم الأعمال التلفزيونية الأولى التـي أعدت بكثير من الأناقة، واتشحت بالثقافة والمتعة الراقية، معتمدة على مجموعة صغيرة من الإعلاميين الأكفاء، جاء معظمهم من الإذاعة، كمدير الأخبار حسن بحبوح، والمذيعين المخرجين: عادل خياطة وخلدون المالح وسامي جانو، والمذيع والفنان التشكيلي مروان شاهين، والمذيع عبد الهادي البكار. كما أستعين في إعداد البرامج الأولى بالسيدة هيام طباع التي أعدّت وقدّمت أحد أكثر برامج الأطفال تألقاً ورسوخاً في الذاكرة، وناديا الغزي المحامية والأديبة صاحبة برنامج (البيت السعيد) الذي عرض على شاشة تلفزيون القاهرة أيضاً ونال نجاحاً واسعاً.
حافظ التلفزيون السوري على هويته الخاصة في زمن الوحدة، ومع إيمان القائمين عليه العميق بها، فلم يقبل هؤلاء عرض ما كانوا يعتبرونه أقل من المستوى الذي حددوه لما يقدم على شاشتهم، حتى لو جاء من التلفزيون التوءم، وأكثر من ذلك فإن تلفزيون دمشق كان يكتفي ببث موسيقا النشيد الوطني لدولة الوحدة (والله زمان يا سلاحي) دون أن يبث الكلمات لمرة واحدة، فقط لأنها مكتوبة باللهجة العامية لا باللغة الفصحى، وهو ما رأى فيه الدكتور صباح قباني، وسواه، تناقضاً مع دولة تحمل اسم الجمهورية العربية المتحدة.
من جهة ثانية أولى القائمون على التلفزيون الدراما اهتمامهم منذ اللحظة الأولى، فأستقدم من المسرح الجامعي وصفوف الهواة شبان موهوبون كان منهم دريد لحام، والفنان التشكيلي الراحل غازي الخالدي ورفيق سبيعي. ومن مسارح المحترفين عدد من الفنانين المتميزين أمثال عبد الرحمن آل رشي، ونهاد قلعي، وعدنان عجلوني، وثراء دبسي ونزار شرابي، وفاطمة الزين. وتضمنت برامج المنوعات الأولى التي أخرجها خلدون المالح مشاهد درامية أسست للكوميديا التلفزيونية، وشهدت بدايات تكون الثنائي الناجح: دريد ونهاد، والظهور التلفزيوني الأول لعدد من نجوم الكوميديا السورية وفي مقدمتهم رفيق سبيعي، ومحمود جبر. في حين كان عادل خياطة يضع توقيعه على أول عمل درامي تلفزيوني سوري، وهو (ثمن الحرية) الذي كان يدور حول نضال الشعب الجزائري في سبيل حرية واستقلال بلاده. والمؤكد أن اختيار هذا الموضوع للعمل الدرامي التلفزيوني الأول يترجم التوجه الوطني والقومي والتقدمي للتلفزيون في سورية منذ لحظة ولادته. وهو التوجه الذي حافظ عليه على امتداد العقود الستة التالية، رغم كلّ الصعوبات والتحديات الجديدة وضعف الإمكانات وتبعات الحرب على سورية.
مترفعاً عن السطحية والإسفاف، متمسكاً بالمصداقية والإحساس العالي بالمسؤولية الاجتماعية والوطنية والقومية.
إضاءات – سعد القاسم