الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
استلمتُ رسالته بعد طول انتظار، لم أتبيّن تاريخ السنوات الممهورة على المظروف بدقّة، إذ محت قطرات الدماءِ بعض تاريخها!.. نفضتُ الغبار عنها، مسحتها بلطفٍ، بمنديل يشبهني يوم غادرني.. فتحتُ الرسالة بفرحٍ عارم، وبعض التوتر يتملّكني، وكانت المفاجأة.. لم أقرأ فيها جملة مكتملة، كلّها أحرف مبعثرة كيفما اتفق، كأن طول المسافة والزمن قد محاها، وهي تتأرجح متعبة في مغلّفٍ بارد.. بدأتُ أجمع بعض الأحرف، لأركّب منها جملة مفيدة، جميلة، تناسب فرحتي، فلم أفلح إلا باقتناءِ جملة واحدة: أنت زهرتي الأبدية!!
أمسكتُ قلمي وبدأت أكتب له لواعج قلبي وآلمي، على صفحةٍ طُويت بيننا على حين غرّة. قلت له:
بعد شوقي الغزير والمرير، أكتبُ لك بصراحةٍ ووضوح، كما تعرفني: أنا متعبة جداً، والإعياء رماني طريحة الأسئلة المستحيلة، بعد أن رأيت الحرب بأمِّ العين، وطالت بها ظلال العتمة، كأنها أتية من أبدية، تأخرتْ معها نهارات لُقيانا!….
لقد تغيرتُ كثيراً، تلوثتُ فكرياً رغماً عني، تبعثرت ثقافتي، بتُّ أفكّر بكلِّ مساوئِ التاريخ، وتفسير الديانات السماوية، لا أعرف كيف وصلت بي الحال إلى هذا الحدِّ من السوء، وكيف تبدلت نظرتي للأمور؟.
تصوّر !!.. اكتشفتُ أن هناك مذاهب، وفِرق طائفية، ويقولون: هناك فرقة ناجية.. لا أعرف ناجية من أي شيء؟.. ومن أين جاؤوا بهذه التسمية؟.. وماذا يعني ذلك؟.. يقتلون بلا سببٍ موجب لإزهاق أرواح البشر!..
كم أنا عاتبة عليك.. لماذا لم تحدّثني يوماً عن ذلك، ولم تُطلعني على هذه اللعنات الشيطانية الموجودة في عقولِ بعض البشر، أو بين دفتي كتاب؟! أنتَ تعرفني جيداً، وتعرف قناعاتي، لا أعرف أن لهذا الكون غير إله واحد، أحبه ويحبني، أراه بكلمةٍ طيبة، بالمحبة، بالعطاء النبيل، بالصدق والأمان، وبكلِّ شيءٍ جميل!. ولكن، بعد أن اتّسخ سمعي، بدأت أفكّر فيما يدّعون ويقولون، هل حقاً القتل مشروع؟ وهل الله فوضهم بالتحدث باسمه، واتخاذ القرارات نيابة عنه؟!.
نعم تلوثتْ، وكثيراً، لأني أعرف من يحرق أشجار الكينا، والزيزفون، ومن يكسر نوافذ البيوت والأبواب في حيّنا، ويروّع ساكنيه، ولا أجرؤ على الإفصاح عن اسمه، خوفاً من أن يغتصبني كما اغتصب غالبية فتيات الحي، أو يذبحني كما ذبح جارنا قبل أيام، فهل لك أن تتخيّل كم اتسخت؟.. وكم بتُّ أحمل من النذالة والجبن، في هذا الزمن الرديء؟.
أجل اتّسخت، وبتُّ أسأل نفسي كلّ يوم: من أنا؟.. ما هو ديني؟.. إلى أيّ طائفةٍ أنتمي؟.. من هو عدوّي الأوّل، لأبدأ بتجهيز نفسي للإجهاز عليه، كرهاً وحقداً، وعلى حجارته، وعلى الأرض التي يطأها، بلا مسوغٍ منطقيّ لعدائي الوليد!…
نعم، اتسّخت، أصبحتُ أستمع لسايكس وبيكو، وهما يصدحان في حيّنا، ليل نهار، وهناك من يُطرب لصوتهما، لدرجةٍ جعلتني أنسى تناول دواء روحي، الذي يمدني بالحب والمرح، مع أغاني الزمن الجميل، زمانك الذي كبرت بين جوانحه، فهل هناك أكبر من هذه الخيانة المُدَمّرة، لعمرٍ مضى، بتُّ أرى نفسي فيه مغبونة وجاهلة؟.
هل تتوقع أن أشاهد عمليات الاجرام والقتل والتنكيل بالبشر، على الشاشات، أو على مواقع التواصل، بطرقٍ مرعبة، من ذبح، وحرق، وإغراق، وخنق، ولا أصرخ، ولا أفقد صوابي؟.. بل وأتابع تناول طعامي إن كنت أتناوله، أو أتابع الحديث مع صديقاتي عن آخر مسلسل أعجبهم، أو عن أسعار العطور والمكياج، وآخر صرعات الموضة، أو لنتفق على موعدٍ للتسوّق؟..
لقد تبلّدت مشاعري، وتبلّدت إنسانيتي بالاحتضار، وهي اليوم في الهزيع الأخير من الشوائب، فهل عرفت من أنا ضمن هذه الفوضى؟..
لا تغضب إن قلت لك: لقد بدأت تتساقط لمساتك من يدي أيضاً، كأوراقٍ خريفية، تتقاذفها الرياح المسمومة، إلى زوايا مجهولة، مُعتمة، تسابق روحي الموجوعة إلى نهاية لا أرجوها، وأعترف أنني نسيت الورود يا غالي، ونسيت شذاها، ومناسباتها السجينة بعد غيابك! ..
تستطيع أن تفكّ رموز طلاسمي، وتُدرك كم جيفةٍ استوطنتني، وبَرَعت في نشرِ رائحتها العفنة داخلي، إلى أن صرتُ مبتورة الأفق، ومحدودة المدى.. عُد أرجوك بسرعة، وانتشلني من هذا الانحطاط المُهين، أريد أن أخضّر مرة أخرى وأزهر ….
كم أتوق إليك، الآن، وأكثر من أيّ يوم مضى، وبقوّة.. عد إليّ أرجوك، لأستعيد معك توازني وعافيتي، وحريتي، ويعود عهد الحب بيني وبين أهل الحي وعائلتي، وعلى الطرقات والأرصفة، ولأعود زهرتك الندية، يا حقيقتي الأبدية..!.
وضعتُ الرسالة في البريد السريع، بعد أن طبعت قبلاتي عليها، وعدت أدراجي إلى الأمل، بانتظار جوابه.. لم يتأخر الرد هذه المرّة.. عندما جاء ساعي البريد، لم تتّسع الأرض لدقات قلبي، خلتها قد أيقظت كلّ النيام في العالم، وحتى الأموات …
ناولني الرسالة، وهو ينظر إليّ بإمعانٍ وشفقة، وعاد أدراجه مسرعاً.. دارت الدنيا بي، عندما وقعت عيناي على حبري.. بصعوبةٍ بالغة قرأت: تعود لمصدرها، فالزمن المطلوب، مجهول الإقامة!..
التاريخ: الثلاثاء27-7-2021
رقم العدد :1056