لو كانت الواقعية المذهلــــة أو القصوى أو المفرطة أو السحرية هي كل شيء، لما وجد الفن الحديث لما بعد الانطباعية، الذي تأسس على مفاهيم جمالية تقف أحياناً على طرفي نقيض من الاتجاه الواقعي في الرسم والنحت، ولو أن الواقعية هي كل شيء في الفن، لكانت روائع التماثيل الفخارية التي اكتشفت في سفح جبل ليشان في الصين، والتي تتفوق على الفن الواقعي الأوروبي، وعلى تماثيل الشمع الخاصة بالمشاهير في أكبر المتاحف العالمية، فهي تجسد بواقعية مذهلة وبالحجم الطبيعي، جيوش الامبراطور (شي هوانغ) وكأننا أمام صور بشرية حية، كل وجه له قسماته وتعابيره وحالته النفسية الخاصة، إذ ليس فيها وجه واحد يشبه الآخر، علاوة على وجود تعابير خاصة بكل تمثال على حدة، وكأننا نجد هذه االتعابير في وجوه الجنود والناس الحقيقيين، فالتحدي في إنجاز هذه المجموعة الكبيرة من التماثيل كان يكمن في قدرة الفنان على التقاط التعابير الحية والمباشرة التي تميز كل شخص عن الآخر، بما فيها من سمو معنوي أو فني أو ملامح تشير إلى التفوق أو العظمة.
ولكن المتذوق المطلع على مراحل تطور الفن الحديث، والذي يمتلك ثقافة فنية وحساسية بصرية وروحية عالية، قد يفضل الأعمال الخارجة عن النمط الواقعي التسجيلي، ولهذا تبدو مدارس الفن الحديث والمعاصر مثل حدائق الزهور، لكل مدرسة لونها وعبيرها ومحبوها، وفنون مابعد الحداثة، لها جمهورها أيضاً، والذي يفضلها على الأعمال الواقعية التسجيلية، وخاصة التي تفتقر لعناصر الإقناع والدهشة.
وهذا ليس انتقاصاً من أهمية الفن الواقعي، فهو الأساس، ويبقى قادراً على التجدد بشكل دائم مع وجود مبدعين حقيقيين، لم تكن أعمالهم مجرد أداء حرفي أو نقل جامد ومتشابه، بقدر ماهي موجهة لإظهار صفات وخصائص وروح كل لوحة، حتى أن بعضها يصل إلى حدود الإعجاز الفني، ويفرض على المشاهدين نوعاً من الواقعية الشديدة الوضوح والبروز، فلا يكفي الفنان الواقعي أن يمتلك المهارة التقنية والدقة في تجسيد العناصر الواقعية، وإنما هو بحاجة إلى قدرات استثنائية تمكنه من الوصول إلى مناخ خاص به، في خطوات التنقل من لوحة إلى أخرى.
رؤية ـ أديب مخزوم