الملحق الثقافي : هفاف ميهوب:
في كتاب “الثقافات وقيم التقدم”، يقدّم المفكِّران الأميركيان “صموئيل هنتنغتون” و”لورانس هايرزون”، مجموعة من الدراسات التي تتناول، العديد من المواضيع الحواريّة المثيرة للجدل، وهي مواضيع تعالج مسائل الفكر والنهضة، والثقافات ودورها المؤثّر، وغير ذلك من مسائلٍ تناولها كُثر من المفكّرين الغربيين، في محاولة منهم للكشف عن أسباب الفشل والتخلف اللذين يعاني منهما العالم الذي بحاجة لأن يعرف، كيف يفكّر العقل، أو العقول الغربية والإسلامية، إزاء قضايا عابرة، أو مهمة وحاسمة، وهي معرفة تحتاج إلى فكرٍ عقلانيّ ونقديّ، يكشف المنهج في قضايا فكرية، يُغنيها الجواب على العديد من الأسئلة التي منها:
هل حقاً يوجد فكرٌ عقلاني، وماهي قضاياه وإنجازاته، ودوره وفعاليته، في الأحداث التي تتوالى على المجتمعات.. أيضاً، ما هو مضمونه ومرجعيّته، وهل يعبّر عن مسار المجتمع، أو المجتمعات، بطريقةٍ مستخلصة من رؤى عقلانيّة نقديّة، عن الماضي والحاضر، مع استشرافٍ لمستقبلٍ لا نراه ردّه إلى السلف، وإنما زخمٌ من الحراك الاجتماعي، والنشاط الانتاجي الفكريّ، البنّاء والمتطوّر…
كلّها أسئلة، وإن كانت معقدة ومتشابكة، إلا أنها وجدت عدداً متنوعاً من التفسيرات والأسباب، التي قدّمها نخبة من أبرز المفكرين في العالم، عبر هذا الكتاب، الذي مثلما كشف عن أسباب فقرِ وتخلف وفشل شعوب، وعدم قيام نهضةٍ، أو حيازة ثقافةٍ فيها، كشف أيضاً عن تفوّق وتقدم وازدهار شعوب أخرى.. كشف ذلك، دون أن يتجاوز الأبعاد الراهنة إلى ما ورائها، أي الموروث من القيم والثقافة التي تصوغ البنية الفكريّة للإنسان، والجينات الثقافيّة التي انتقلت عبر الأجيال بصورة تراثٍ، هو حصاد خيراتٍ مكتسبة، على امتداد القرون والأحقاب.
باختصار، الإجابة على كلّ هذه الأسئلة، تُختصر بالقول، لا يوجد في عالمنا فكرٌ اجتماعيّ نقديَ، وإنما خطابٌ فرضته الفاعليّة الجدليّة بين المجتمع كقوّة اقتصادية، والفعل والفكر وما يتبعهما من تطوّرٍ ماديّ ومعنويّ، وحضاريٍّ بإمكانه محو الأميّة الثقافيّة العالمية، والإسهام في تطوير الشعوب، كقوّة فاعلة..
كلّ هذا، لا يمكن تفعيله واقعيّاً، وخصوصاً في ظلِّ انتشار الفكر الرجعيّ والإرهابي، ولاسيما في العالم العربيّ، إلا عبر التطور الاجتماعيّ الحضاريّ، وبإخضاع العالم لإرادة الإنسان/ المجتمع، الذي تجاوز حضارتيّ الزراعة والري، والصناعة والعلم، وأيضاً المعلوماتيّة، إلى عصر المعرفة والإنسان والعقل والعالم الجديد …
“لماذا الثقافة مهمّة؟”!!
لا شكّ أن ارتباط الثقافة بالأداء الاقتصاديّ، وفي كلّ أنحاء العالم، جعل أيّ تغييرٍ يطرأ على أحدهما، يؤثّر على الآخر.. إنها نظرية التبعيّة التي تفسّر حالات التخلّف الثقافيّ، مثلاً:
“الباحثون في أميركا اللاتينيّة، هم وأنصارهم في الخارج، عمدوا إلى تفسير فشل التطور في بلادهم، إلى الأعمال الإجرامية التي ارتكبتها الدول الأقوى والأغنى”..
هنا، تعجز الأمة الضعيفة اقتصاديّاً، عن التحكم في مصيرها، حيث تعمل ما يمليه عليها الآخرون، ما يجعل من البديهي أن يقوم هؤلاء الآخرون الأغنى، باستغلالها والتحكم بحياتها وثقافتها، بل ووجودها..
انتشرت هذه الثقافة الرأسماليّة، بطريقةٍ جعلت ما كشف عنه “ماركس وأنجلز” في فهم النظام الرأسمالي الجديد في غرب أوروبا، يتّضح ويؤكّد بأنهما أصابا عندما توقّعا انتشار الرأسمالية لتشمل العالم بأكمله، فها هو العالم، ورغم التطوّر السريع في أدوات الإنتاج، والتوسّع في وسائل الاتصال، محكومٌ بنظامٍ عالميّ ماليّ، يسعى إلى اجتذاب الأمم ويدفعها على طريق الحضارة، ولكن برأسماليّته الأشبه بمدفعيّة ثقيلة، تدكّ أسوار الشعوب بالتخلف والتدهور، فتجبرها باسمِ الحضارة، على التوجّه نحو الإنتاج البورجوازي، وعلى الخضوع لسياستها، والتجمّل بصورتها..
إنه ما جعل الدراسات الواردة في هذا الكتاب، لا توافق على أن تسمّى هذه العملية بالتطوّر، وترى بأن “من الممكن وصفها بأيّ شيء، إلا بكونها ديمقراطيّة.. إنها مجرّد عملية تسييسٍ فرضها النظام العالميّ المؤسّساتي، الذي اتّصف بالقسوة تارةً، ومرّات عديدة بالعنف الذي جعل مؤسّسات هذا النظام:
“تواجه مؤسّسات النظام الرأسمالي، معارضة من قِبل نخبة المجتمعات غير الرأسماليّة، بسبب ما يفرضه من منافسةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ واقتصاديّة، جعلت الحقيقة تكمن في سعي النخبة من أبناء المجتمعات، بجميع أنماطها، وعلى اختلافها، إلى إحباط أو تقييد، قيام بيئةٍ مؤسّساتيّة، لمجتمع يرتكزعلى سيادة القانون، ومبادئ الحراك الاجتماعيّ، الثقافي القيميّ”…
لاشك أنها أفكار، من الطبيعي أن تلاقي الكثير من المعارضة، ولاسيما لدى مفكرين وكتّاب منهم “جيفري ساكس”، الذي يُعتبر من أكبر الداعين لتبنّي قوانين السوق الحرّة والانفتاح الاقتصادي، وهو ما جعله يتطرّق في بحثه إلى الجانب الجغرافي والمناخي، بوصفه سبباً في تخلّف بعض الدول الأفريقية، التي قال إن سبب ماهي عليه، هبات الطبيعة القليلة، والمناخ الحار الذي يساهم في انتشار الأمراض والأوبئة.
من هؤلاء الكتّاب أيضاً، “دانييل إيتونجا مانجويل” الذي انتقدَ في مقالٍ له، القيم الثقافية التي يؤمن بها الأفريقي وتسببت في تراجعه، مثل الإيمان بالخرافة، وتحجيم العقل، وعدم الجدية، الطابع الاقتصادي السيىء، مع تضييع الوقت، فهو يرى بأنه “لا توجد شعوب ناجحة أو فاشلة، ولكن هناك ثقافات تشجّع على النجاح، وأخرى تشجع على التقهقر”..
باختصار: الكتاب عبارة عن حوارات عديدة، تدور جميعها حول عجز وفشل بعض الشعوب، عن النهوض فكرياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً، ونهوض بعضها الآخر، اعتماداً على القوة الاقتصادية المهيمنة.. إذاً، ولطالما اختلفت الآراء فيه وتناقضت وتنوعت، يتوجّب على القارئ أن يتأملها بعقلٍ واعي، وقيمٍ أصيلة، ليكون هو الحكم في النهاية، فيعرف الأسباب الحقيقية التي تمكّن ثقافاتٍ من تحقيق عدالتها والنهوض بشعوبها، في الوقت الذي تسير فيه شعوبٌ كثيرة في العالم، نحو التدهور بجميع أشكاله، وأخطرها الثقافية النهضوية..
التاريخ: الثلاثاء 17- 8- 2020
رقم العدد: 1059