الثورة أون لاين:
توفيق أحمد شاعر الدهشة والصورة الفنية الأصيلة والمبتكرة التي تتكىء على جذور راسخة لكنها تنمو بأغصان جمالية تشتد وتقوى لتكون لوحة وأبعد من صورة.
من منا لم يحفظ الكثير مما قيل في وصف العيون… توفيق أحمد يخرج عن المألوف في هذه الصور ويمضي نحو العيون التي تعني حداثة الحياة، عن هذه الحال ثمة دراسة موسعة وشائقة نشرها الدكتور هايل طالب نقتطف بعضا مما جاء فيها:
العيون المعشوقة في شعر توفيق: تكاد لا تخلو قصيدة من قصائد توفيق أحمد من ذكر لفظة (عين)، بل إنها قد جاءت عنواناً للقصيدة ما يجعلها في مركز الدلالة، وكذلك ولع الشاعر بهذه اللفظة ومركزيتها في معجمه جعلاه يكرر هذه اللفظة في مطالع قصائده ما أوقع تلك المطالع بالتشابه من ناحية التكنيك الفني، وأسلوبية التعبير، فهو يقول في افتتاح قصيدة (تلك الليلة):
ألستِ بعينيكِ أشعلتِ فيّ الشرارة
وبالأمسيات الخضيلات
داعبت أمواج عشقي
أزحت عن النافرين الصبيين
تلك الستارة//
ويقول في مطلع قصيدة (أميرة الحبق والعشق):
هل لعينيك في المدى من رفاق
تجمعان العشاق بالعشاق
وهما عالمي ولو سألاني
لاستحى الضوء والندى والسواقي
من إلى ناظريك زفّ الليالي
راسماً لوحة الجمال الباقي؟
العين عند الشاعر تحمل دلالات متعددة، فهي علامة سيميائية على الحب، من خلال تحولها إلى عنصر إشاري دالّ من خلال الالتفاتات والحركات، يقول:
ما زلت أذكر عينها التفتت
نحوي وطوّق خصرها زندي.
والعينان رمز أزلي للألم المحبب عند الشعراء فهما مصدره بالنسبة للقلب العاشق، لكن الشاعر يجعل ذاك الألم وذاك الظلم في سياق فني طريف عندما يقول:
أبحث الدهر عن تجنّ لطيف
غير عينيك جانياً لا ألاقي
تَدِينُ لِعَيْنَيْهَا سَوَاحِرُ بَابِلٍ
وَتَسْكَرُ مِنْ صَهْبَاءِ رِيقَتِهَا الْخَمْرُ
وتأتي العين ملاذاً مسيطراً في خطاب العشق، ما يجعل العيون المعشوقة بوصلة لقلب العاشق، يقول:
وصرتُ إذا امتُحنتُ بأيِّ عشقٍ
إلى عينيك يأخذني سبيلي.
بل قد تكون العيون عنواناً لموت شاعري، فالذات العاشقة في تماهيها بالمعشوق، ورغبتها في الانصهار به، قد تلجأ إلى الموت حباً، الذي لا يجد مكاناً مناسباً شعرياً لإنجاز انتحار العاشق، من العيون، وهنا يكون الموت معادلاً للذوبان والتماهي والفناء بالمعشوق على سبيل المجاز، كما نلحظ في قوله:
ولي عيناكِ أقسم لست أدري
متى بهما أنا أنهي مصيري.
ومن هنا لاغرابة أن تحضر ألفاظ من حقل الموت للدلالة على الحالة العشقية مقترنة بالعيون، وهو ما نلحظه في قول الشاعر أحمد:
عشقتني عيناك أعرف أني
شهقة الليل في ضمير الشموع.
وللعين تقدّم القرابين، وتصبح التضحية مصدر لذة على طريقة الصوفيين، يقول:
لمّا لعينيها نَذَرْتُ دمي
طاب الهوى وتوقّدَ الحسّ
في بحر عينيك قد أرسيت أشرعتي
ولا يلام محب في تماديه
كأنّ هدبك والنجوى تحاوره
بحر من الشوق يحكي عن سواقيه
من الشعر ارتحلْ
في ليل عينيها وقل:
قلبي خذيه كي يسافرَ
لا الصعاب تردنا عن آخر المشوار
لا جمر المسافة.
والعين دالة في الخطاب العشقي عند توفيق أحمد على السكينة الجمالية وراحة النفس الباحثه في موعدها عن إطفاء لشوق لا ينطفئ ولا تخبو جمراته، يقول:
حبي لعينيك استضاء بموعد
ترتاح فيه القبرات طويلا
الشوق في عينيّ حقلُ محبّة
ما جفَّ إلا واخترعتُ حقولا.
فالعين مصدر سكينة وراحة عندما تقترن بموعد، والعين مكوّن حافل بالجمال عندما تقترن بالشوق في عيني العاشق، فهي تتحول إلى حقول شوق ومحبة شاسعة، لا يجفّ جمالها، فروافده قلوب العشاق الفياضة بالمحبة.
كيف عيناك ترفضان انعتاقي
إنه العشق فتنة الخلاقِ
زرقة تسبح السماوات فيها
وانطلاق للضوء تلو انطلاقِ
عالم بعضه الوصول إلى التيه
ودنيا مجهولة الأعماق
فيهما استريح سيفاً من الفتح
ونهراً أضاع حلم السواقي
بهما أنتهي وعوداً رماها
بانتظار المجهول يوم التلاقي
أنا باق يلفني الآه والشوق
وبعض الذهول والإشفاق
عيناكِ كنهري أحـزانِ
نهري موسيقا.. حملاني
لوراءِ، وراءِ الأزمـانِ
نهرَي موسيقا قد ضاعا
سيّدتي.. ثمَّ أضاعـاني
الدمعُ الأسودُ فوقهما
يتساقطُ أنغامَ بيـانِ
عيناكِ وتبغي وكحولي
والقدحُ العاشرُ أعماني
وأنا في المقعدِ محتـرقٌ
نيراني تأكـلُ نيـراني
أأقول أحبّكِ يا قمري؟
آهٍ لـو كانَ بإمكـاني
فأنا لا أملكُ في الدنيـا
إلا عينيـكِ وأحـزاني
سفني في المرفأ باكيـةٌ
تتمزّقُ فوقَ الخلجـانِ
أأسافرُ دونكِ ليلكـتي؟
يا ظـلَّ الله بأجفـاني
يا صيفي الأخضرَ ياشمسي
يا أجمـلَ.. أجمـلَ ألواني //
فالعيون هنا مناسبة كشفية في عوالم أخرى، وفي الوقت ذاته تتماهى مع الكشف عن ذاتية معذبة في الحياة والعشق، فالشاعر هنا كأنه يقرأ في لوحة تشكيلية لتلك المرأة المعشوقة، تذكرنا بالموناليزا اللوحة الشهيرة المعروفة، فلن تغيب عن مخيلة المتلقي صورة تلك اللوحة في أثناء قراءة النص، نتيجة طغيان الحزن والألم اللذين يلفان النص،
وقد حاول كل شاعر أن يستقرئ العينين بطريقته الخاصة، وطرافة الفكرة عادة هي التي تقود للتوقف عند نصين يعالجان الموضوع ذاته