الثورة – سعاد زاهر:
رغم أننا نتابع إعادة مسلسل “شتّي يا بيروت”، إخراج إيلي سمعان، على قناة (mbc)، إلا أن الحبكة الدرامية التي اشتغل عليها الكاتب بلال شحادات لا تزال ورقة رابحة تجذبنا للمتابعة، وكأنها المرة الأولى لنتعايش مع شخصيات تلهث خلف انتقام عائلي، تاركة الحاضر، ساعية خلف أحقاد لا تستكين لما مضى.
العمل الذي يجسد الألم المشترك السوري- اللبناني مستنداً على خلفية سياسية واقتصادية وأمنية ملتهبة، لا يكتفي العمل بكونه دراما اجتماعية، بل يُبنى على أسس التراجيديا الواقعية، التي تُعرّي الهشاشة الإنسانية وسط دوامة الفساد، الفقر، والثأر.
الشخصية المحورية في العمل يقوم بأدائها عابد فهد بدور عبد الله، الذي غادر سوريا عائداً إلى بيروت بعد سنوات من الغياب، ليجد نفسه في مواجهة مأساة اختطاف ابنه، بسبب صراعات بينه وبين شقيقه ضمن بيئة تسودها لغة الدم والانتقام.
ومن خلال هذه الشخصية، تبدأ العلاقات بالتشابك والتكشف عن تلك الأحقاد التي نلهث معهم خلفها دون أن تنطفئ سوى بانتهاء حامليها، لكن على عكس ما يمكن توقعه من قصة قائمة على الثأر، يحاول النص أن يفتّت هذه البنية التقليدية من خلال التركيز على الجانب الإنساني للضحية والجلاد معاً.
طيلة الوقت نلاحق الأحداث المليئة بخلطة أكشن أصبحت حتمية في درامانا لننغمس في أجواء من القهر والفوضى العاطفية، حيث تتشابك علاقات العائلة، العصابات، والماضي الثقيل، في بيئة واقعية مشحونة بالعنف والألم.
العديد من المحاور الدرامية تتعارض وتتلاقى لنعيش مع حبكة درامية تتخذ في العديد من ملامحها بعداً إنسانياً يتعاطى مع أبيه عبد الله- عابد فهد، مع طفل يعاني من متلازمة داون، يبدو في مختلف المشاهد التي تصوره طفلاً محتفى به يتلقفه الجميع كهدية من السماء.
شخصيات عديدة تدور في فضاء العمل جميعها محملة بالوجع ثنائية الشقيقتين (نور وأماني)، إذ تؤدي زينة مكي دور ممرضة، بينما السا زغيب فهي الزوجة المقهورة التي تعمل على تكسي وتلتقي بعبد الله لتعيش ثنائية من نوع مختلف قائمة على مفارقات تجعلها تكتشف أنه يعمل في تهريب البشر، أما زينة مكي تلتقي في ظروف غريبة بعاصي “جيري غزال” ليكونا من أهم ثنائيات العمل، تجتمع الشقيقتان على هدف مشترك وهو إنقاذ والدهما المريض.
ثنائية عابد فهد، وشقيقه إيهاب شعبان، أظهرت قدرتهما على الغوص في عمق الشخصية ففي حين تمكن عابد فهد من شخصية مركبة تجمع بين الألم الداخلي والانفجار الخارجي، مع أدائه المتوازن بين الانفعال والصمت يُعطي طبعاً حقيقياً للشخصية، أما إيهاب شعبان، الذي لعب دور الأخ الخصم يفاجئ الجمهور بقدرة تمثيلية عالية، إذ يعكس وجعاً دفيناً يضاهي ألم الضحية.
شخصيات عديدة أتقنت أدوارها لين غرة ابنة عم عبد القادر، والحب المؤجل، رغم موافقة الجميع على الزواج عن طريق “الخطيفة”، تراجعت في اللحظة الأخيرة من أجل والدها.. شقيقها رامز أسود قلب الانتقام الأسود ومحرك أحداث المسلسل، يعيش تطورات في شخصيته تنقلنا معه مع تباينات أدائية مميزة.
الحالة البصرية المتسقة مع الحكاية والأداء يقدمها المخرج إيلي سمعان من خلال واقعية بصرية تستلهم جمالياتها من كاميرا تتحرك في الشوارع، في زواريب المدن، في وجوه الأشخاص المحطّمين.
التصوير يبدو كأنه شهادة على الانهيار الحاصل في المجتمع، لا مجرد خلفية للأحداث.
الموسيقا التصويرية بدورها تحمل نغمة شجية ، توازي وقع الحوارات الثقيلة والدراما العنيفة، ما يجعل المتلقي في حالة وجدانية شبه دائمة، من دون افتعال.
اللافت في المسلسل أنه لا يطرح الأبطال بصيغة الأبيض والأسود، بل يتنقل في المنطقة الرمادية.
فلا أحد بريء تماماً، ولا أحد مجرم بالمطلق، هذه البنية النفسية المعقدة تُغني السرد وتجعله أكثر واقعية وعمقاً.
لا يغفل المسلسل الإشارة إلى الانهيار الاقتصادي، الأخلاقي، الاجتماعي، وكذلك يفتح نافذة على الوجع السوري من خلال الشخصيات التي تأتي من خلفية الحرب.. هناك محاولة لطرح تساؤلات حول جدوى العنف، وفكرة “الخلاص الفردي” وسط مجتمع مفكك.
“شتّي يا بيروت”.. عمل يضعك أمام مرآة مؤلمة، لا يقدم بطولات زائفة، بل يرسم شخصيات مأزومة تحاول النجاة من عالم خسر ملامحه.