الثورة : أحمد صلال – باريس :
تمثّل البيئة المكان الرحب والدار الأسمى للكائن البشري، إذ يولد فيها ويظلّ وطنه الأوحد حتى حينما يغادر هذا العالم الذي احتضنه بكلّ ّحبّ ورحابة ودفء منذ نعومة أظفاره.

فقد أخذ سحنته من تلك الأرض، وكانت مثار أحلامه وحبّه الأول، ولاسيما عندما تكون هذه البيئة قرية في الريف، هنا تكمن أهمية القرية في نفس وعقل الشاعر والروائي السوري عيسى الشيخ حسن.
فرغم ابتعاده عن القرية، ما زالت تعيش في داخله شاخصة بكلّ تضاريسها، فهو لم يغادرها إلا بجسده، لكن روحه ما زالت هناك، في تلك القرية الفراتية.
في رواية “العطشانة”، حاول الروائي وكما حدثنا في حواره مع صحيفة “الثورة” أن يحاكي القرية بطريقة روحية مجازية، دون أن يظهرها بشكل مباشر للقارئ.
مفهوم البطولة والبطل
إنّ ولادة البطل ليست محض صدفة، بل هي إفراز منطقي للحظة تاريخية بعينها، بولادة حتمية كي يشارك ويحقق التقدّم السردي المناط به.
من هذا الفهم، يبرز الجوهر التأريخي للبطل مصطفى، الذي يسرح في رزق أبيه من الدواب، هو الابن الذي يعاني من قسوة أبيه، الذي يحبّ دوابه أكثر من ابنه.
يهرب مصطفى ويقرر التمرد على القمع والعنف العائلي، والفقر، والحرمان، والقساوة، بحثاً عن الحرية والخبز والعيش الكريم والدفء العائلي الذي يكمن في الحبّ.
كلّ هذه العوامل ساهمت في تغيير حالة البطل، فشخصية البطل وكما وصف حسن تتمتع بقوة تأثير في أي عمل روائي، وإن حاولنا التفتيش عنها، أمكننا أن نستشف ملامحها من مضمون ما يقوم به مصطفى.
يمكن القول : إنها غلبة يرتفع فيها صوت مصطفى، الذي يملأ نفوس الناس العاديين إجلالاً وإكباراً.
وإذا بحثنا عن مفهوم البطولة والبطل في النص، نجد أن السرد يجمع على أن البطولة هي الشجاعة الفائقة التي يمتلكها مصطفى، وهي ما تجعله بطلاً في محيط لا يتمتع بمثل هذه الشجاعة.
مصطفى الذي قرر ترك كلّ شيء والبحث عن ذاته بعيداً عن عالم القرية الصغيرة، متوجهاً إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لبدء شق حياة جديدة.
“لم تكن علاقة الحاج حميدي بولده مصطفى مثلما هي علاقة أبناء الحي بأولادهم، ولم يحدث أن هشّ الحاج لابنه أو بشر، وتعزو أم مصطفى ذلك إلى الحياة القاسية التي عاشها الحاج صغيراً بعد موت أبيه”.
من الواضح أن الروائي يركز اهتمامه على تصوير الأبعاد الشخصية للبطل، حيث كانت محور الرواية وله الدور الرئيسي في ربط عناصر العمل من جوانبه كافة.
القرية دور البطولة والتمظهرالعجائبي
توجد في رواية “العطشانة” إشارة واضحة للفضاء المكاني الكبير، الذي تشتغل فيه أحداث الرواية بشخصياتها المختلفة. وسيكون القارئ على موعد مع المحيط القروي من الريف الفراتي بكلّ ما فيه من عادات ومعتقدات وأعراف، وتحديداً في فترة الستينيات، وقبيل وصول الضباط البعثيين إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري، مع إشارات سردية تحيل إلى زمن البدء ببناء سدّ الفرات وغمرهذه القرى.
إن القرية تمثّل بؤرة الصورة والملمح الثابت في الرواية، ففي حالة تفاعل دائم، قدّمت صورة مميزة للريف الفراتي، وقد أعطى الكاتب للمكان الروائي (القرية) أهمية قصوى تعادل أهمية القرية التي تصدرت عنوان الرواية.
كما أن المكان القروي يحمل أهمية كبرى في نتاج الكاتب الذي ينهل من واقعه، ويبرز براعة التناسب في العلاقة بين المجتمع الصغير (في “العطشانة”) والمجتمع الكبير (في سوريا) والمجتمع الأكبر (الإنسانية).
وكأن الكاتب يقدّم رواية هي وسيلة إيضاح، يوشك أن يقول فيها: “انتبه، ما تقرأه يتعلق بقرية تمثّل صورة مصغّرة لسوريا”.
لذا، أضحت القرية فضاءً رئيسياً من دون منازع، فالأحداث والشخصيات لم تغادر القرية إلى مكان آخر، بدأت أحداث الرواية في القرية وانتهت حاضنة للأحداث، متفاعلة مع الشخصيات ومتماشية مع الزمن.
لقد تخلصت الرواية من سلطة البطل الموحد الذي يتحكم في سير الحدث، ما أدى إلى تنوع السرد بحيث لم نجد ضميراً واحداً يؤطر الحدث، بل غياب واع للبطل النموذجي.
كانت الملامح المكانية في “العطشانة” تضفي بعداً عجائبياً، حيث خرجت عن المكان المألوف المتعارف عليه، فضلاً عن اضطراب سلوكيات مصطفى، الشاب القروي الذي وقع في حبّ “تيودورا”، ابنة الخواجة اللبناني، والتي تكبره بخمسة عشرة سنة.
رغم ذلك، بقيت شخصيته عجائبية، تربطها علاقة وطيدة مع كلّ أبناء القرية، صغيرها قبل كبيرها، وهي شخصية مرحّب بها في كلّ بيوت القرية.
رجال ونساء وأطفال يتمظهرون في الرواية كشخصيات عجائبية، حيث يتشاركون بعلاقات مشتركة مع هذه العناصرالمجتمعية المتباينة.
“في الجرد.. الربيعي يحكي، تقول تيودورا، فيوافقها عبود، ويبقى مصطفى صامتاً، متذكراً نيسان في براري الفرات، البراري التي تحكي وتغني أيضاً”.
تستحق رواية الريف الفراتي اهتماماً خاصاً، ليس فقط لعمق ارتباطها الموضوعي بالريف إلى درجة التوحّد التاريخي-نشأة وامتداداً- ولكن أيضاً لأنها ترسم للريف السوري صورة خاصة ومتميزة.