افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله
ليس بمقدور أحد أن يُنكر المعاناة والوضع المعيشي الصعب، ولكن ليس بمقدور أحد إنكار المُستوى المُتقدم لجهة تَمسك مُجتمعنا بدولته وتأييد شعبنا لها في خَياراتها وسياساتها العامة والاستراتيجية رغم الصعوبات الناتجة عن الحرب والعقوبات ومحاولات الحصار والتضييق.
هي مُعادلة تَقهر مَنظومة أعداء سورية، بمُوجباتها ومفاعيلها عجزت قوى العدوان عن تحقيق أهدافها، ذلك لأنّ موقف الشعب والدولة اتسم بالإرادة والثبات في المقاومة والدفاع والتضحية، فأنتجَ عوامل قوّة ما زال العدو يُراهن على تفكيكها بمُحاولة استهداف الدولة والشعب بأدوات الإرهاب الاقتصادي من بعد فشل تنظيماته الإرهابية التي استَجلبها من أربع جهات الأرض لإنفاذ مُخططه في التمزيق والإخضاع والهيمنة.
ما هانت العزيمة في المُقاومة ولن تَفتر، غير أنّ مُحاولة تشديد العقوبات الظالمة وتضييق الخناق على سورية وشعبها بمُلاحقة لقمة العيش وحبة الدواء والمواد الأساسية، لا شك أنها المُحاولة التي تَجعل الوضع أكثر صعوبة. ومع اشتداد المُعاناة يَتطلع العدو لإحداث أكبر مقدار من الضرر بمُستوى ثقة المجتمع بالمؤسسات العامة للدولة، ذلك ليَتقدم خطوة لطالما عجزَ عن تحقيقها بالعدوان المباشر، بالإرهاب، وبالحديد والنار، وبالتّسييس والتلفيق والكذب.
الحكومة بمؤسساتها الإنتاجية والخدمية لا تُوفر مُناسبة إلا وتؤكد فيها التزامها بالقضايا الأساسية إن لجهة تَوفير المواد وتَحسين الأوضاع أو لجهة بث الأمل في النفوس وتَعزيز الثقة بمُؤسسات القطاع العام الذي ما زال يَحظى بمَوثوقية شعبية عالية. وبالتوازي فإنّ شعبنا الصامد الصابر المُقاوم لا يُوفر مُناسبة إلا ويؤكد فيها على الثّبات والتمسك بالمبدأ وعلى امتلاكه إرادة التضحية من أجل حفظ سيادة الوطن واستقلاله ودفاعاً عن قضاياه بمُواجهة منظومة العدوان ومُخططاتها.
هل يَعني ذلك أنّ المَوقف الرسمي والشعبي ما زال صلباً قوياً تَستحيل معه مُحاولات مرور الأعداء، أم أنّه ينبغي علينا – حكومة وشعباً – أن نَتنبه إلى أمر خطير يَجري ويَتسلل ببطء، يَستهدف الأعماق مُستغلاً قلّة الموارد، صعوبة توفير المواد، المُعاناة والظروف المُعقدة، ليَصل الأمر لاستهداف الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة، فيُوجه لها ضربة قاسية تتحقق معها رزمة الأهداف التي سعى العدو لتحقيقها خلال سنوات الحرب والعدوان؟.
الثقة من كَونها أحد أهم عوامل الصمود والنجاح والانتصار وكسر وتَمزيق المخططات المُعادية، هل ما زالت قوية أم أنها تَضررت؟ وهل الاعتراف بتَضررها يَعني الضعف أم أنه يُمثل نقطة ارتكاز القوّة التي منها تُستَمد العزيمة لتَرميمها؟ وما الأسباب التي أدّت لتَضررها إذا كانت قد تَضررت؟ ثم ما السبيل لتَعزيزها ومَنحها أسباب القوّة؟.
هي أسئلة مَركزية ينبغي العناية بها والإجابة عنها، فمن شأن ذلك أن يَهدم الضرر الحاصل وأن يُرمم ويبنى مُجدداً بالاعتماد على الطاقات الوطنية المُتاحة وهي ثرّة، وبالتأسيس على إرث غني ما زال يَمتلكه قطاعنا العام ومؤسساتنا الإنتاجية والخدمية.
إنّ محاولة الإجابة على الأسئلة المَطروحة لا بُدّ أن يَقودنا إلى رصد المُشكلات الناشئة الناتجة عن الحرب والحصار، ولا بُدّ أن يَقودنا إلى رصد مُستويات العمل والأداء والإدارة، ذلك أنّ التزام الدولة بالدعم ما زال قائماً، وذلك أنّ المواد الأساسية إذا كانت قليلة فهي مَوجودة ويَحصل عليها الجميع، وذلك أنّ تَغييراً لم يَطرأ على السياسات التي تَخص القطاعات الحيوية الخدمية والإنتاجية لا سيما التعليم والصحة والنقل والزراعة والطاقة.
إذا كانت المُشكلات الناشئة الناتجة عن الحرب والحصار مَعروفة ويُمكن تَفهمها، بل يَتفهمها المُجتمع ويُقدر المواطن التكاليف والجهود الرسمية المبذولة لمُعالجتها والتغلب عليها، فإنّ نقطة الخلل التي تتسبب بالكثير من المُعاناة تبدو على صلة وثيقة بالأداء وطرق الإدارة، وهو الأمر الذي يَجب التركيز عليه والعناية به، إذ أن أغلبية المُشكلات البارزة والتي تَبرز مرّة بعد أُخرى في اتجاهي وَفرة المواد أثناء السِّلم وقلتها أثناء الحرب، إنما سببها التقصير حيناً، والفساد حيناً آخر، وسوء الإدارة دائماً بحالتي الوَفرة والقلّة.
كأُنموذج للمُشكلات، دائماً كان لدينا مُشكلة في رغيف الخبز – قبل الحرب واليوم – مرّة في تَصنيعه وأُخرى في جودته وتوزيعه، ودائماً في هَدر مُكوناته والمُخصصات، لكنّ أحداً في يوم من الأيام لم يَفقده لعدم تَوفره، وإذاً فالمسألة تتعلق بالإدارة والأداء.
وكنَماذج أخرى، دائماً كان لدينا مُشكلة في المدارس والتعليم والنقل والمشافي العامة، لكنّ أحداً في يوم من الأيام لم تَرفض المدرسة العامّة وَلَدَه، وكذا لم يَرفض أو يَتخلف أيّ من المَراكز الصحية عن تقديم الخدمة الطبية لأحد، بينما كان على الدوام يَصل الجميع إلى مَقاصدهم بوسائل النقل العامة. فما المُشكلة إلا في طرائق تَقديم هذه الخدمات، وبالاختناقات الحاصلة، وبمستوى تَقديمها لجهة الجودة والسرعة والتنظيم. وإذاً فالمسألة تتعلق بالإدارة والأداء.
سوء الإدارة وتَردي الأداء والتقصير والإهمال وتَقاذف المَسؤوليات، عوامل تتحمل مُجتمعة أكبر حصة من المَسؤولية في خلق الأوضاع الصعبة، وتتحمل المسؤولية الكاملة في زعزعة الثقة خصوصاً عندما تتعلق هذه الخدمة وتلك بالمؤسسات العامّة، فتكون النتيجة الطبيعية أن تَتضرر الثقة بالحكومة وأجهزة الدولة وأن تَتكاثر الاتهامات لهذه الأجهزة بالفساد – الفساد هو مُجتمعي وبالضرورة ليس حكومياً فقط – فتنشأ لاحقاً وعلى نَحو تَراكمي حالة مُؤهلة للتطور بالاتجاه السلبي مع استمرار التقصير وتَردي الأداء، لتُصاب الثقة بالضرر، ولتَتعاظم معها المَخاطر المُحتملة التي يبحث العدو عنها للمرور عَبرها.
ما الحل؟ لا حلَّ لتَعزيز الثقة إلا بحُسن تَقديم الأسباب التي أدّت لنشوء المُشكلة، وإلا بالذّهاب لمُعالجتها بعيداً عن تَقاذف المَسؤوليات، وإلا في التّحلي بالشفافية والصراحة في بَيان الإمكانيات والقُدرات وعدم قَطع الوعود التي لا يُمكن الوَفاء بها، وإلا بمُراقبة الأداء وتَحسينه، وإلا بالمُحاسبة ورَصد النتائج التي يجب أن تكون مُنعكساتها مُباشرة على الحياة العامّة والإنتاج، ودائماً بما يُخفف الصعوبات ويَمنع هدرَ الطاقات ويُحقق التنمية والنّمو في كلّ الاتجاهات.