الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس*
من عاداتي المزمنة، أن لا أهتمّ بمقدّماتِ الكتب ولا بخواتيمها، ولا أعمد إلى الاطّلاع عليها، قبل الانتهاءِ من المتن؛ سواء أكانت من قبل المؤلّف، أو الناشر، أو كانت معلومات وقراءات وآراء حول الكاتب والكتاب، وقد تخرج عن السياق، وتستطرد أحياناً؛ لتعبّر عن رأي كاتبها في مسائل مطروحة في الكتاب، أو أخرى متّصلة بها أو بالكتابة وأجناسها والمجال، الذي ينتمي إليه موضوع الكتاب؛ ومنهم من يعتدّ بهذا؛ مؤلّفين ومدعوّين لكتابتها، وربّما داعين لها! ويستثمره ويستغلّه، في الترويج والتسويق لصاحب الكتاب وكتابه، وللناشر، وللمقدِّم نفسه، وقد يكون في بعض هذه الاستهلالات ما يسوّغ- وقد صار لها دارسوها ومؤوّلوها وممتهنوها- واُشتهِرَ بعضها أكثر من نصّ الكتاب نفسه؛ لجدّيّة ما دوّن، واحترام الحيّز والفرصة والموقف والرأي والدعوة والمناسبة والنفس أيضاً! كما قد لا يكون فحواها ذا قيمة وأثر؛ لأنّه تقريظ ومباهاة واستعراض؛ ليس إلّا!.. وينطبق هذا على ما يُختتم به الكتاب، من ملخّصات وآراء وتعليقات وتعريفات- وبعضٌ يؤخَرها إلى هناك؛ لتغدو أقلّ وقعاً وتأثيراً على القارئ والناقد- تلك التي أعود إليها؛ كما المقدّمات، أو لا أعود، لدى فراغي من قراءته، بعد أن صار في إمكاني مقاربتها بفكر العارف، ورأي المطّلع، ويمكنني أن أقيّمها أيضاً؛ فقد لا أتوافق مع بعضها أو جلّها، أو قد أجدها مناسبة بهذه النسبة أو تلك؛ ولكنّها تبقى آراء تخصّ أصحابها، ولا تملي على أحد، ولا تستوجب فعلاً أو ردّ فعل، ولا تمنحها فرصةُ تصدّرِها المدوّنة، أو ختمِها، ميزة تفوق أيّ رأي آخر.
وسأستطرد قليلاً فيما لا يبتعد عن الموضوع، فأقول إنّ من عاداتي في القراءة أيضاً، أنّني لا أرغب في التعرّف إلى عدد الصفحات، ولا إلى ما يشير إلى النهاية، أو ملخّص الفحوى، أو ما يلمّح إليها، أو ما يكتب على الغلاف الأخير، قبل أن أنتهي من قراءة المتن، ومن النادر أن أعيد قراءة كتاب أو نصّ، إلّا إذا كان هذا ضروريّاً لدراسته، أو لإبداء رأي موثّق فيه، أو للاستعانة ببعض الشواهد والأمثلة منه، في هذه الدراسة، وربّما المناقشة.. وليس في الأمر تجاهل، أو استخفاف، أو تعالٍ؛ معاذ الله؛ فإنّي لأحترم كلّ من يكتب، وأقدّر كلّ كلمة تُكتب، حتّى يثبت لديّ العكس، من بعد قراءتها، والتمعّن بها، إن كانت تحتاج إلى ذلك؛ بل يعود الأمر إلى رغبتي بأن أكتشف بنفسي ما يحتوي عليه الكتاب، وأهيّئ حواسّي وملكاتي؛ لكي أُستثار، وأنفعل، وأُدهَش، وأغتني بما جاء فيه؛ وقد لا يحدث شيء من هذا، فأخيب! ولكن لا ألوم أحداً، ولا أتحسّر على ما أهرقت من وقتٍ وجهدٍ وطاقةٍ في قراءته، بل إنّ عليّ واجب الاطّلاع والتعرّف إلى ما يدور في الوسط، الذي أدّعي وجودي فيه واهتمامي بمجرياته، ولا شكّ أنّ هناك فائدة من هذه الخيبة، تُجتنى؛ فقد صارت لديّ فكرة بيّنة عن الكتاب والكتاب، تضاف إلى الرصيد، الذي لا نتحكّم في تفاصيله، ولا أدري متى تمكنني الاستفادة منه! ومن أجل هذا، فمن النادر أن أترك الكتاب من دون أن أنتهي من صفحاته؛ حتّى إن تبدّى لي بعضٌ ممّا ينتظرني منذ الصفحات الأولى، أو من صفحات متقدّمة؛ نتيجة خبرة ودربة وطول معايشة؛ لأنّ أيّة فكرة حوله، من دون الاطّلاع عليه كاملاً، ستكون منقوصة، وغير موثوقة بالنسبة إليّ، ولا يمكن أن أستشهد بها؛ كما أنّ رأيي، لا يمكن أن يؤخذ على محمل الثقة؛ من قِبَلي، قبل أن يكون ذلك من قبل الآخرين، ولن أدلي به؛ فقد يكون هناك من قرأ الكتاب بكامله، ولديه ما لا أعرفه عنه؛ كما قد يكون هناك من ينتظر هذا الرأي منّي أو من سواي، وقد يتبنّى ما هو غير مؤكّد! وفي هذا ظلم للمؤلّف وما كتب، وللنفس أيضاً، وإسهام في التشويش والتضليل والتعكير، الذي لا يعدمه الوسط الثقافيّ- للأسف- ولا شكّ في أنّنا في غنى عنه.
وهناك أمر آخر، لا بدّ من أخذه بالحسبان، أعني تأثّر رأي من يقرأ بما قد أشيع؛ شفاهاً أو كتابة، عن المدوّنة وصاحبها، أو بما يطّلع عليه من آراء وأفكار، سبق أن قرأها في المقدّمات والخواتيم، أو في سواها، وقد يكون هذا التأثّر في صالح العمل المنجز، أو لا يكون؛ وهذا لا يمكن رصده بسهولة، أو معرفة نسبته من الرأي المستخلص بعد القراءة، وهناك من تتشكّل لديه رغبة مسبقة- ومن دون وعي أو قصد- في دحض ما يقال، أو التقليل من شأنه، ويمكن أن يحدث العكس؛ فقد يأخذ المرء بالقول السائد والرأي الطاغي والفكرة المهيمنة؛ مجاملة للكاتب، ولمن يقول بهذا، أو حتّى لا يُتّهم بعدم الفهم وقلّة الثقافة والمعرفة، وعدم القدرة على التفسير والتأويل والاستيعاب؛ ولا سيّما إذا كانت قد عملت أقلاماً وشخصيّات ووسائل وجهات مؤثّرة فاعلة مسموعة، على الإشهار والتعويم والتعميم! وربّما أقامت حفلات توقيع له، في أكثر من موقع! وأعترف بمنتهى الشفافيّة، بأنّ حماستي تنوس إزاء ما أخذ حيّزاً واسعاً من الدعم والاهتمام والدعاية بمختلف الأشكال والمضامين، وقد أعود إلى قراءته من بعد أن تهدأ الموجة، التي قد تليها موجات مؤيّدة أو مسفّهة! ولا أخجل من القول: ليس لديّ رأي؛ لأنّني لم أطّلع بنفسي على المادّة الأصليّة، ولا أخجل من رأيي، الذي سينتج من القراءة؛ سواء وافق الجوقة، أو فارقها! وقد حدث، ويحدث، هذا أو ذاك؛ من دون أن أغالط نفسي من أجل أحد؛ أيّ أحد!.. ولست أدّعي هذا لأقول إنّني مستبدّ برأيي، ولا أثق بما عداه؛ بل لأؤكّد أنّني لا أقول إلّا ما أنا مقتنع به، بعد تدقيق واهتمام يليق. ومن هذا الباب أيضاً، فإنّني لا أحبّ ترديد أسماء الآخرين وآرائهم، ولا التشبّث والاستشهاد بمقولاتهم وتعبيراتهم، لا في الحديث الشفويّ، ولا المدوّن؛ إلّا في المنحى الدراسيّ التوثيقيّ التاريخيّ، وأرى أنّ كثيرين قد يعمدون إلى مثل هذا بديلاً عن شحّ آرائهم وأفكارهم، أو لجبنهم، وعدم اقتناعهم وضعف ثقتهم بما يمكن أن يعبّروا عنه وبه، ولتوسّل الثقة بهم وبما يقولون، وللفت الأنظار إليهم على أنّهم مثقّفون! وقد يكون المُقتبَس مبتسَراً ومحرّفاً ومغلوطاً وضعيف المرجعيّة؛ كما أنّ هناك ما يناقضه، وقد يتمّ تغييبه، أو تجاهله، أو ربّما يجهله المستشهِد، أو نجهله؛ كما قد يكون هناك من يناقض نفسه وأقواله بين حين وآخر، وحوار وآخر، وكتابة وأخرى! وتلك طامّة كبرى! ولديّ ما أمارسه، وأقتنع بجدواه؛ ويتمثّل بضرورة أن نقول ما نراه، ونفكّر فيه، ونستنتجه، أو فلنصمت!..
ومن قبيل الانسجام مع الحال، فقد اعتذرت عن عدم قبولي تبرّع عدد من الأصدقاء الأدباء والنقّاد، بالتقديم لأيّ من كتبي؛ كما اعتذرت عن عدم كتابة أيّ تقديم لأيّ من كتبِ أصدقاءٍ أدباء، تمنّوا عليّ ذلك. وآثرتُ -وأوثر- أن يقدّم الكتاب نفسه بنفسه؛ وأن يعبّر النصّ بذاته؛ شكلاً ومحتوى، عن أفكار مؤلّفه وتوجّهاته وقدراته وإمكانيّاته؛ ولا تعني شهرة كاتب أو كتاب؛ بالضرورة، توالي النجاحات، واستمراريّتها؛ فقد ينجح مؤلَّف، ويخفق آخر، للكاتب نفسه، وفي الحيّز نفسه، ومن الطبيعيّ أن تؤثّر البيئة، ومستوى اهتمامها بالثقافة والمثقّفين، والذائقة الشخصيّة والجمعيّة فيها، والظروف العامّة والخاصّة، وحيثيّات الطباعة والتوزيع، في الحضور والانتشار والاهتمام والتقييم والجدوى.
* شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء9-11-2021
رقم العدد :1071