الثورة أون لاين – د.ثائر زين الدين:
منذ أيام بينما كنتُ أقفُ على شرفة منزلي، ملوِّحاً لبعض جيراني الذين تجمّعوا أمام البناء المقابل راداً تحياتهم، وهم يزفونَ ابنةَ جيراننا عروساً إلى قريةٍ مجاورة ارتفعَ صوتٌ جميلٌ جهْوريٌ منادياً:
«خَلَف الله عليك يا فلان بن فلان مَحبَّة براس قرايبك…»، ثم تكرَّرت العبارة بصيغ مشابهة وأسماء جديدة عشرات المرّات، وكان الرجل المنادي يجمع المال الذي يقدَّم إليه قبل كل صيحة في سلّةٍ أنيقةٍ مصنوعةٍ من القش.
ثم غنت النسوة على إيقاع الدفوف وهنَّ ينطلقن بالعروس فرحات:
«يخلف عليكم كَثَّرَ الله خيركمْ…. ولا عجبنا من النسايب غيركمْ…».
أعادني المشهد إلى المرَّة الأولى التي عرفتُ فيها هذا العنصر الجميل -على لغتنا نحن الباحثين – من عناصر تراثنا الشعبي غير المادي، كنتُ يومئذٍ في السابعة أو الثامنة من عمري، وقد رافقتُ والدتي لحضور عرسٍ عند أقاربنا، ولعلَّ ذلك حدثَ صيف 1970، يومئذٍ أيضاً توقَّفَ الغناءُ قليلاً، وعلا صوت شابٍّ يلبسُ لباساً تقليديّاً، ويعتمرُ «حطَّة» بيضاء وعقالاً أسود مائلاً قليلاً، وراح كثيرون يقتربون من الشاب، ويقدمون له قطعاً نقدية ورقيّة ومعدنيّة، فيرميها في سلَّته، ويردد تلك العبارات المعروفة، انتبهت والدتي إلى اهتمامي بما يحدث، فأخرجت «جزدانها» القماشي المعطر الذي أعرفه جيّداً، من مكان ما ناحية الصدر، في ثوبها العربي المخملي الطويل، وأعطتني خمسَ ليرات قائلةً: «اذهب قدِّمها «نقوط» للعروس…»، لم أكن أفهم ماذا تعني كلمة «نقوط»، لكنني فرحت بالأمر كثيراً، وركضتُ ناحية الشاب الذي «يشوبش»، ودفعت الورقةَ في يده، فسألني عن اسمي واسم والدي، ثمَّ علا صوته الذي بعثَ فيَّ الجذلَ والفخر:«خلَفَ الله عليك يا ثائر بن جاد الكريم… مَحبَّة براس قرايبك…».
ابتسمتُ وأنا ما أزالُ أقفُ على الشرفة متابعاً أهل العرس وهم يصعدون الآن بسياراتهم وبباصٍ كبيرٍ، على أصوات الغناء الشعبي الجميل. ابتسمتُ مفكِّراً ببساطة هذا التراث الشعبي وغناه، وانسيابه في عروقنا، ومع جيناتنا ودونَ أن نشعرَ به، وبتماثلهِ في بقاعِ وطننا الكبير كلّه، فهذا «الشوباش» نفسه وبالعبارات نفسها أو تكاد، تراه في أعراس درعا والقنيطرة والأردن وفلسطين، والبادية السوريّة، ومناطق كثيرة من الجزيرة، وترنُّ في أذني أغنيةُ طلعة العروس من بيت أهلها في إحدى القرى الفلسطينيّة:
«يخلف عليكو وكثَّر الله خيركو…. ولا عجبنا من النسايب غيركو.
يا بو العروس وكثِّر الترحيبي…… ونحنا ضيوفكو من بلاد بعيدي.
يا بو العروس لا تكون طمّاعِ……. المال ينسى، والنسايب نفاعِ…»
بل انظرْ قليلاً في التراث الشعبي في مناطق من العراق والخليج العربي وتَرَ هذه العادة موجودة بصيغٍ مماثلة، وهي موجودة أيضاً في مصر.
ويرى بعض الباحثين أنَّ أصل الكلمة يعود إلى اللغة الهيروغليفيّة القديمة، وتُقسم إلى قسمين: «شو: بمعنى مئة، وباش: بمعنى: فرحة وسعادة. وإذا جمعتَ الجزأين وجدتها: مئة فرحة…». وهناك من يجدُ لها أصلاً في الفارسيّة والكرديّة. وقد انتقل هذا المصطلح إلى الفرق الغنائية المختلفة التي تحيي الأفراح المختلفة كالأعراس والنجاح والختان والعودة من الحج والسفر والتخرّج في بعض البلاد العربية، إذ يضطلع أحد أعضاء الفرقة بدور ذلك الشاب في العرس التقليدي، داعياً الحضور بترديده كلمة شوباش لتقديم ما يرغبون فيه من مال هديّة للعرسان أو أصحاب الدعوة عموماً.