الملحق الثقافي:حامد العبد
عند محاولتنا البحث في النقد الأدبي وتحليله، ودراسة مكوناته ونتاجه، سنجد أنفسنا مضطرين للوقوف عند المثلث الإبداعي المكوّن لأي منتج أدبي. وهو مثلث متساوي الأضلاع أو هكذا يفترض به أن يكون. يمثل ضلعه الأول الكاتب المبدع للنص الأدبي، وضلعه الثاني يمثل النص الأدبي نفسه، أما الضلع الثالث فهو القارئ لهذا النص أو المتلقي له. وما تاريخ النقد الأدبي إلا تاريخ دراسة هذه الأضلاع كل ّعلى حدا، والتركيز على إحداها أو تضخيم دوره على حساب الضلعين الآخرين، وذلك تبعاً للمرحلة التاريخية التي مرت بها رحلة النقد الأدبي في الغرب على وجه التحديد.
لقد كان التركيز في البداية ومنذ قرون على دور المؤلف، والعوامل المحيطة به والمؤثرة في عملية إبداعه، من عوامل نفسية واجتماعية وتاريخية، ضمن ما سميّ بعد ذلك بالمناهج السياقية في النقد الأدبي، وقد استمرت هذه المرحلة حتى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وإن كانت ما تزال تداعياتها مستمرة لغاية الآن، لينتقل الاهتمام بعد ذلك بالمكون الثاني لعملية الإبداع الأدبي ألا وهو النص الأدبي ذاته، ضمن ما سمي بالمناهج النسقية أو النصّانية في النقد، وذلك منذ بدايات القرن العشرين بتأثير من مدارس النقد الأدبي الجديد و الشكلانيين الروس وحركات النقد البنيوية والتفكيكية للنصوص، والتي اعتبرته (أي النص) على أنه منتج مغلق وراحت تتعامل معه بمعزل عن مؤلفه، ولعل مقولة (موت المؤلف) لرولان بارت تجسّد هذا التوجه في أنقى صوره، وقد استمرت هذه المنهاهج إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، ليتم بعده الانزياح والاهتمام بالضلع الثالث، ألا وهو القارئ أو المتلقي أو المُستَقبِل للعمل الأدبي ضمن ما أُطُلق عليه بنظرية التلقي أو جمالية القراءة أو نقد استجابة القارئ أو نظرية الاستقبال، وكلها مسميات لتوجّه واحد من شأنه جعل القارئ هو الحكم الرئيس في تأويل معاني النص وإنتاج دلالته. وقد اعتبر الناقد الكبير تزفيتان تودورف أن القارئ هو أكبر المنسيين في نظريات الأدب الكلاسيكية كلها، ولكن هذا لا يعني عدم وجود إرهاصات مبكرة نوعاً ما حول أهمية القارئ، ولعل مقولة الناقد الروسي بوريس توماشيفسكي وهو من كبار مؤسسي حركة الشكلانيين الروس (إن صورة القارئ حاضرة دائماً في وعي الكاتب، حتى وإن كانت مجردة) تشكل واحدة من هذه الإرهاصات. إلا أن الانطلاقة الفعلية لهذا التوجه بدأت في ألمانيا عند نهاية الستينيات من القرن السابق، على يد ناقدين بارزين، الأول هو ولفغانغ آيزر Wolfgang Isere في كتابه (فعل القراءة.. نظرية الاستجابة الجمالية) والذي ظهرت له ترجمتين إلى العربية الأولى على يد عبد الوهاب علوب، والثانية على يد المترجمان حميد الحمداني والدكتور الجلالي الكدية، ولعلنا نستطيع القول أن ترجمة عبد الوهاب علوب كانت موفقة أكثر من الترجمة الثانية، أما الناقد الثاني فهو هانز روبرت ياوس H.R.Jaus في كتابه (جمالية التلقي.. من أجل تأويل جديد للنص الأدبي) ترجمة الدكتور رشيد بنحدو. وإن كان هذا لا ينفي جهود عدد من معاصريهما في أوروبا وأمريكا من أمثال جوناثان كيلر ونورمان هولان.
لقد كان يُنظر إلى القارئ على أنه مجرد صندوق بريد يُلقي الكاتب فيه رسالته، التي هي عبارة عن نصه الأدبي، وعلى القارئ الاطلاع عليها، أي أنه مستقبل سلبي للمعنى الذي يقصده المؤلف في نصه الذي أودعه في وعي المتلقي لمعلومات النص باستسلام، وما على هذا القارئ إلا القيام بقراءة متأنية ليستخرج المعلومات منه. ولكن مع تطور النظرية الأدبية، وتقدم مستويات النقد الأدبي، جرى ملاحظة الدور الكبير الذي يضطلع به القارئ، والذي بات شريكاً للمؤلف في صياغة معنى النص. ويمكننا ملاحظة ذلك من دور القارئ في ملئ الفراغات التي يتركها المؤلف في نصوصه، أو ما توصف بالمسكوت عنه في النص كبعض المفاهيم الدينية والسياسية والاجتماعية والتي يكتفي المؤلف بالإيحاء عنها. وهنا يتوجب على المتلقي قراءة ما بين السطور لكي ينجلي له المعنى المقصود الذي يتوصل إليه كل قارئ حسب ذائقته الفنية وثقافته وخبراته السابقة.
إن قراءة رواية واحدة من قبل قارئ ما، يعني تشكل سلسلة من الصور الذهنية المتلاحقة وكأنها فيلم سينمائي تُشاهد فيه الأحداث والشخصيات للنص الروائي، وكأنها تجري أمام العين بفضل القدرة التخيلية لهذا القارئ التي تُجسدها في ذهنه، وتختلف هذه المشاهد والشخصيات حسب الرؤية الخاصة بكل قارئ، وهكذا يكون القارئ مشارك بشكل كامل في إخراج هذا الفيلم كما هو المؤلف.. إن فعل الكتابة يفترض مسبقاً فعل القراءة، وحسب آيزر الذي يعتبر أن العمل الأدبي ما هو إلا «بناء للنص في وعي القارئ»، فإن هذا النص يعيش تحت سلطة القارئ ووعيه أكثر مما يعيش سلطة مبدعه، وكل عمل أدبي لا يرى النور من دون القارئ، وإلا بقي جسداً ميتاً رهينة الرفوف بانتظار من يبعث الروح فيه، والنص لا يكون حاضراً إلا بقدر ما يكون مقروءاً، ومن هنا يمكننا القول إن القراءة هي إبداع ثانٍ، وأي نص على الرغم من أنه نتاج إبداعي من خبرات الكاتب و موهبته، إلا أنه بمجرد صدوره سيستقل عن مؤلفه ويمتلك موضوعيته بانتظار القارئ الذي سيتعامل معه انطلاقاً من اهتماماته الشخصية وأهدافه المضمرة.
ومن هنا كان الاهتمام بنوعية القرّاء وفئاتهم، إذ قدم لنا النقد المعاصر أصنافاً معينة من القرّاء، كالقارئ الأعلى أو الفذ حسب ريفاتير، والقارئ المطّلع أو المُخبَر حسب ستانلي فيش، والقارئ المقصود حسب وولف. وهذه المفاهيم الثلاثة تنطلق من افتراضيات مختلفة، وتترتب عنها قيود تقوض حتماً قابلية التطبيق العامة للنظريات، وتهدف إلى حلول مختلفة.. أما آيزر فقد قدم مفهوماً للقارئ هو من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والخلاف، وهو مفهوم القارئ الضمني Implied Reader والذي يرى الكثير من النقاد أنه استعاره من مفهوم المؤلف الضمني Implied author للكاتب الأميركي واين بوث في كتابه (بلاغة الفن القصصي) عام 1961، حيث قصد بوث بالمؤلف الضمني، الأنا الثانية للمؤلف التي تنفصل عن أناه المرتبطة بشروط الواقع، وتتحد هذه الأنا الثانية بالعالم التخيلي للمؤلف.
إن القارئ الضمني هو قارئ لا يمتلك وجوداً معلناً، ولكنه يوجّه عملية القراءة، وهو ليس ترفاً بل ضرورة، ذلك أن أية نظرية تهتم بالنصوص الأدبية، لا يمكنها أن تتقدم ر ولاند بارت إلى الأمام بدون إدخال القارئ الذي يشكل الإطار المرجعي الجديد لها، ويجب علينا أن نسلّم بحضور هذا القارئ دون أن نحدد مسبقاً طبيعته، وهو كمفهوم له جذور متأصلة في بنية النص نفسها، ومن المعروف أن النصوص تحقق ذاتها بقدر ماهي تُقرأ، وهذا يعني أن النصوص يجب أن تحتوي مسبقاً على بعض الشروط التي ستسمح لمعناها أن يتجمع في ذهن المتلقي. وقد عرف آيزر هذا المفهوم بأنه (بنية نصية تتوقع وجود متلق دون أن تحدده بالضرورة)، وهو مفهوم يبني الدور الذي يتخذه كل متلقٍ مسبقاً، ويصح هذا حتى عندما تعمد النصوص إلى تجاهل متلقيها المحتمل أو إقصاؤه عن عمد، فعلى سبيل المثال عندما يقوم أحد ما بكتابة مذكراته الشخصية جداً، فإنه لا يتوقع من أحد قراءة هذه المذكرات بل ولا يرغب بذلك، ولكن لا بد للبنية النصية لهذه المذكرات من وجود قارئ ضمني غير معلن لها، وإلا أصبحت هذياناً وثرثرة بلا معنى، فكل نص ينطوي على نوع من التوجه الضمني الذي يتوجه به العمل الأدبي إلى المتلقي، وهو توجه لا يخلو منه أي عمل، ومن هنا يمكننا القول إن القارئ الضمني له وجود قبليّ، إلا أنه تجريدي وغير حقيقي، فالنص الأدبي بهذا المعنى يهيئ متلقيه ويتهيأ له.
إن نظرية التلقي دعت إلى فهم النص فهماً يتجاوز فهم مؤلف هذا النص نفسه، ويفتح الباب لإبداعات جديدة تغني النص بعدد قرّائه وقراءاته، وقد قدمت هذه النظرية نظرة حديثة ومبتكرة عن النصوص الأدبية وتأويلاتها، وسدّت فراغاً كبيراً لم يلتفت إليه الكثير من النقاد حول دور القارئ بكل أشكاله. إلا أنها أيضاً هي نفسها لم تعدم من يوجِّه لها سهام نقده، شأنها في ذلك شأن كل نظريات النقد الأدبي السابقة. إذ يعتبرها البعض أنها قد فتحت الأبواب أما فوضى التأويلات، وسمحت لكل من شاء (حتى لو لم يكن مؤهلاً)، أن يقدم تأويلاً لهذا النص أو ذاك، بدعوى احترام دور القارئ، الذي عادة ما يكون خاضعاً لعوامل مختلفة، كالجنس والحالة الاجتماعية والنفسية واللحظة التاريخية التي يعيش فيها، بل وحتى نظرته إلى الأدب وغايته من قراءته أهو للمنفعة أم للدراسة أم لمجرد المتعة والتسلية، وبهذا يصبح القارئ وحده غير معوّلٍ عليه تماماً في إنتاج مقاربة نقدية حقيقية. وهذا ما جعل البعض ينظر إلى هذه النظرية على أن كل ما فعلته هو أنها استبدلت مبالغة النظريات القديمة بالمؤلف، باهتمام مبالغ به أيضاً بالقارئ وكأنها استبدلت إشكالية بإشكالية..
التاريخ: الثلاثاء30-11-2021
رقم العدد :1074