الثورة ـ هفاف ميهوب:
من المؤكّد بأن ما وصل إليه الإنسان من تطوّرٍ تكنولوجي، لعب دوراً كبيراً في استعباده، ولاسيما على الصعيد الثقافي والفكري، فممارسة التفكير الهادئ والمتأمّل، وهما من الأمور المهمّة لتطوّر الذهنية الإنسانية، باتت أمراً شبه منعدم، في ظلّ الضوضاء التي فرضها عالمٌ، أحال مهمّة العقل إلى الآلة التي برمجته، بما يخدم الدول المهيمنة، وسياستها العالمية..
من المؤكّد أيضاً، أن أخطر أنواع الاستعباد التي باتت تقود الإنسان، إلى ما نشهده من تيهٍ وتخبّطٍ في العدم، استعباده لنفسه، وسواء بالأنانية وحبّ الذات، أو عبر تمسّكه بفكرةٍ، وتعنّتهُ في الدفاع عنها، بعيداً عن الآفاق التي تخلّصه من تقوقعه، ومن نزواته ورغباته، بل ومن العزلة التي أبعدته عن التفكير الحكيم، الذي يُهذّب الأخلاق ويرتقي بالقيم..
إنه ما جعل المثقف والمفكّر والمبدع والرائي المتنوّر، أكثر الناس شعوراً بالخيبة، ولعدم وجود من يهتم لشأنهم، أو يستثمر إشعاعات عقولهم، أو حتى يساندهم ويدعمهم، إلا من كان منهم مدّعياً أو مأجوراً أو منقاداً، فهؤلاء لا خيبة تشغلهم، ولا شأن لهم إلا بمصالحهم، أو مصالحِ الأوصياءِ على آرائهم وأفكارهم وأعمالهم..
أما الخيبة الكبرى، فهي خيبتنا بهم.. بالمثقفين والمفكرين والمتنوّرين، ولاسيما عندما نراهم، ورغم ندرتهم، يعيشون ضمن عالمٍ مغلق، هو أفقهم الضيّق الذي لا يمكن أن يتّسع فيه تفكيرهم، لطالما تأطّر بأناهم التي ترفض الانعتاق من سجنها، والتماهي مع الأفق الروحي والأخلاقي والإنساني، بل وعجزهم عن تقديم رسالة سامية، يقوم صاحبها بدوره الذي يتجاوز الواقع، بطريقةٍ خلاقة في وعيها الثقافي والفكري والمعرفي..
نعم، هي خيبةٌ بل وفاجعة، حيث الأنا هنا مريضة، وغائبة عن الجمهور، ولا تجد من يعافيها أو يخرجها من عزلتها، أو حتى من يستثمر إشعاعاتها فيطلق أنوراها، نوراً إثر نور…
لا شكّ أنها مسألة تثير القلق، ومن الضروري أن نشعر بهذا القلق، ولا سيما ونحن نعيش يومياً، الانحطاط أكثر وأكثر، والتيه أكثر وأكثر، والفناء أكثر وأكثر…
حتماً هو الفناء، فلا إشراقة أو سطوع أو أضواء.. لا حقائق باتت تشغلنا، ولا صوت إلا صوت خيبتنا، وبعقولٍ نتمنّى أن تتمرّد ولو قليلاً على غيابها وغيبوبتها وصمتها، لتعلن ما أعلنه المفكر الروسي “برديائيف” بعد أن تمرّد على خيبات زمنه وظلمته، مثلما تمرد على صمت المثقفين والمفكرين، ممن قصدهم برسالته:
“الحضارة تنقذ الإنسان من حالة الهمجية البدائية، وتعمل على السموّ به، ولا سيما الإنسان الخلاّق، صاحب الفكر والقيم العليا الذي لا خيار أمامه، سوى مواجهة هذا الصراع الفاجع، هذا التناقض الذي لا يمكن حلّه، والذي عليه وضع مسؤوليته على كاهله، مسؤولية هذا العالم الرهيب، المحزن، الوضيع، وإخراجه من ظلماته، إلى حيث يشارك الآخرين حياتهم الروحية، بحيث يتخطّى وعي العالم الموضوعي، بعد أن داهمته الفاجعة…”