الشعر وتاريخ الجرح

 

الملحق الثقافي:د. ثائر زين الدين:

ما عرفَ الشعرُ العربيُّ في سورية و لا الشاعرُ السوريُّ في تاريخه الحديث مرحلةً أكثر معاناة و إيلاماً مما عاشهُ في خمس السنوات الماضية حتى هذه اللحظة؛ لا في تلك الفترة العصيبة التي ذاق أهلنا فيها الأمرين، تحت نير الحكم التركي، الذي لم يخلِّف بعد طرده سوى الجراحات و الأحزان والشهداء، و لا في تلك الفترة، التي فرش فيها الانتداب الفرنسي البغيض أجنحتهُ السوداء فوق بلادنا، و لا فيما تلا ذلك من فترةٍ حرجةٍ قلقة تعرَّضت فيها سورية و محيطها العربي، لأحداث خارجيّة و داخليّة جسيمة أقضَّت مضاجعنا، و زعزعت بُنانا الحياتيّة و الفكريّة؛ كحرب عام 1948، و حرب 1956،و حرب 1967، والانقلابات العسكرية العديدة، و مشروع إيزنهاور…و انهيار الوحدة الأولى في تاريخنا الحديث.
قد يبدو كلامي للبعض منطوياً على مبالغةٍ غير قليلة؛ لكن الحقيقة غير ذلك؛ ففي خمسِ السّنوات التي عاشتها سورية، و فيما تعيشهُ اليوم- و لا ندري إلى متى- وجدَ الشاعرُ نفسهُ أمام تهديدٍ مختلف عما عاشه أسلافه؛ إن قطعة التراب الصغيرة التي يقف عليها.. و التي ما قبِل بها في الأساس، وعَمِلَ و عانى و كابدَ كي يجمعها إلى جاراتها، ويعيدَ اللحمة التي ربطتها قبل مبضع سايكس و بيكو توشكُ أن تُسحبَ من تحت رجليه، و يُرمى به إلى التيه.. (ألم يبتلع بحر إيجه و حده أكثر من أربعة آلالف سوري؟ ) توشكُ أن تُقسَّم و تُفتت إلى قطعٍ صغيرة؛ على أسسٍ دينيّةٍ و طائفيّة و مذهبيّةٍ و إثنية و عرقيّةٍ لا يعرفها إلا الشيطان!.
و شياطينُ الخارج، و أبالسةُ و عفاريتُ الداخل لا تدَّخر جهداً في تحقيق ذلك، ويقعُ على الأديب و الشاعر ما يقعُ على سائر أبناء بلده؛ من مظالم و ويلات، ليس أقلّها اختطافه و اختطاف ذويه والتنكيل والاتجار بهم و بأعراضهم و بأجسادهم..أو ذبحه وذبح أولاده أمام عينيه: كما حدث للشاعر بشير العاني وابنه في دير الزور، وكما حدث للأديب إبراهيم الخرِّيط و ابنه، و للأديب رشيد الرويلي، وللشاعر عبد الرحمن..ووليد..و حنا و جوزيف..وعلي..و غيرهم!.
لقد رافق الشعر العربي السوري كل تلك الأحداث الجسام، التي ذكرتُها بدايةً، و كان صورة صادقة جسدت معاناة الفرد من جهة و الأمة من جهةٍ أخرى، و كان – بحكم موقعه في الثقافة و الحضارة العربيتين- سيّد الأجناس الأدبيّة، والناطق الشعبي عن كفاحها و انتفاضاتها و ثوراتها، عن أحلامها و طموحاتها و أمانيها… كان» شعر وجود» – كما وصفه ذات يوم د. نعيم اليافي، كان شعراً – على صعيد محمولاته الفكرية- يعبّرُ عن التشوق إلى الحياة الكريمة العزيزة، مثلما يعبرُعن الشهادة في سبيل ذلك الحق..كان شعراً يعبرُ عن نزوع شعبٍ إلى تحقيق أحلامه الصغيرة والكبيرة، و في الآن نفسه يمثّلُ «روح المعرفة و وعد المستقبل ومعناه» على حد تعبير د.جابر عصفور.
لا ينكرُ أحدٌ أنَّ مسائل كثيرة أرّقت الشاعر السوري قبل الأزمة؛ فعلى الصعيد الموضوعاتي اشتغلَ كثيرٌ من الشعراء على الهموم اليوميّة المعيشة: كالفقر و تردّي أوضاع الكثير من الناس، و انهيار الطبقة الوسطى، و الفساد الذي أنشب أظفاره في عديد من مؤسسات المجتمع، بل في النفوس أيضاً.. و لم يغفل الشعراء في الوقت نفسه عن تناول الموضوعات الوطنيّة و القوميّة من مناظير مختلفة، و ركّز كثيرٌ منهم على مقاومة المشاريع الاستعماريّة، التي لم تترك البلاد ترتاح..
و على الصعيد الفنّي ظلَّ الشاعرُ السوري مسكوناً بالرغبةِ في اختراقِ الأشكال الفنيّة القائمة، و التي أصبحت مهيمنة منذ ستينيات و سبعينيات القرن الماضي؛ فقصيدة التفعيلة ترسّخت و أصبحت ذات أنماط وأشكال يصعبُ الخروج عليها – كما كان الأمر مع القصيدة العموديّة فيما مضى- و قصيدةُ النثر استهلكت طاقاتها التجديديّة إلى حدِ غريبٍ، و بدأت تصبحُ نمطيّة بدورها، و ظلت القصيدة ذات البنية التقليديّة (نظام البيت) موجودة، و تعايشت مع الشكلين السابقين بعد أن غادرت مضارب الكلاسيّكية الرومانسيّة إلى الكلاسيّكية الجديدة و الواقعيّة.. إذاً عمل الشاعر السوري على اختراق تلك الأشكال القائمة ولاسيما من خلال التجريب في القصيدة، و محاولات طرح جماليات جديدة مغايرة لتلك الجماليات، التي هيمنت لأكثر من ربع قرن أو يزيد.
و أدرك الشاعر السوري- شأنه شأن أقرانه العرب- أن نموذجه القديم الشبيه بالعراف و المتنبئ، أو المنقذ و المخلّص، قد أفسحَ في المجال لنموذجٍ جديد عاديٍ طبيعيٍ ،أكثر تواضعاً و إنسانيّةً، نموذج لا يكفُّ عن طرح الأسئلة من أبسطها حتى أكثرها تعقيداً، و اقتراباً من المسائل الوجوديّة الكبرى، مبتعداً عن اليقينيّات و غير عابئٍ بالإجابات، فالشك دليل عافية في زمنٍ أُسُّه التحوّل و التغيّر.
ثمَّ فجأةً هاهوذا عالمهُ ذاك يتقوّض.. ينهار.. يصبحُ حُطاماً..فإذا كان أدونيس قد تساءل ذات يوم:» ماذا يفعلُ الشعرُ في مدنٍ تزدهي بجدبها؟».. فقد كان لديه مدنٌ يتحدّث عنها!! أما اليوم فما الذي يستطيعهُ الشعر في مدنٍ تتساقطُ فوق أهلها.. في مدن أصبح الكثير منها أشبه بهيروشيما.. عصاباتُ ظلامٍ لا تُبقي حجراً على حجر.. تذبحُ الناسَ انطلاقاً من انتمائهم المذهبي و الطائفي و ما شابه… خفافيش تدمِّرُفي غمضة عين حضاراتٍ صمدت آلاف السنين!.
ماذا يفعلُ الشعرُ في مدنٍ تعلِّقُ رؤوس الشعراء و العلماء و الفنانين على بواباتها و أعمدتها الأثريّة و جسورها المحطّمة!!.
و مع أن الأدب لم يكن قادراً في يوم من الأيام على أداء رسالة علم التاريخ، ولعلّه ليس مطالباً بذلك، لكن الشعراء السوريين أدركوا أنهم مسؤولون بصورةٍ مباشرة أمام التاريخ ذاته، فاندفعوا يعبّرون بكل طاقاتهم عما يحدثُ من حولهم، عما ألمَّ بالبلاد و العباد.. بالشجر و الحجر.. واكتشفَ – حتّى أولئكَ المجاملون منهم- أنَّ رسمَ بروفيلٍ جانبي للواقع – كما فعل أحد رسّامي هانيبعل القرطاجنّي ليخفي عوره- لم يعد مقبولاً.. اندفعوا يكتبون ويعرّون الواقع، و يضعون أصابعهم في الجرح كما فعل توما، في جراحهم أنفسها، و سبقوا -ربما بسبب طبيعة فنِّهم فحسب- كتَّابَ الأجناس الأدبية الأخرى في تقرّي الحقائق.. و تشخيص الداء.
و عليه من التعسّفِ مثلاً أن نوحِّدَ في نمطٍ فكريٍ جماليِ واحد رؤية كل من أحمد يوسف داوود و فايز خضّور و إبراهيم عباس ياسين و نذير العظمة و بيان الصفدي و فلان و فلان من الشعراء مع شعراء آخرين؛ ممن اخترنا لهم ذات يوم في (من ديوان الجرح السوري ) فمابين شعراء ينتمون إلى أجيال شعريّة عديدة تمايزات واضحة في الرؤية الجماليّة والدلاليّة، وإن كان الكثيرمنها قد ينضوي في إطارٍ فكريٍ عامٍ واحد، سببه بلاريب الواقع السوري الدامي الواحد!.

التاريخ: الثلاثاء14-12-2021

رقم العدد :1076

آخر الأخبار
"سويفت" طفرة استثمارية... لا يُدار بكبسة زر مستشار هندسي يطرح حلولاً عملية كخارطة طريق إلى التنمية المستدامة 25 جراراً من مؤسسة حمد بن خليفة لدعم قطاع الزراعة الدولار يواصل التذبذب في دمشق (سوريا الحلم) ليست بعيدة.. ومرحلة النهوض الشاملة قادمة تخصيب اليورانيوم.. عقدة المفاوضات الأميركية-الإيرانية "أوبزيرفر": لقاء الرئيسين الشرع وترامب ليس مجرد رمزية من الوزن الثقيل The NewArab: بنوك سورية تنتظر تفعيل رموز "سويفت" لتعود إلى السوق العالمية "سويفت" يعيد تموضع الاقتصاد السوري على الخارطة.. اكريم لـ"الثورة": نتائج أولية خلال ٣ أشهر جمعية الصحة العالمية: تعاون دولي لمواجهة قضايا حيوية رمال السيليكا.. كنزاً استراتيجياً صامتاً. تحركات استثمارية للاستفادة من احتياطات ضخمة ذات نقاوة عالي... من قطيعة إلى فرصة.. كيف أضرّ نظام الأسد بالعلاقة الأميركية-السورية؟ الشيباني : خطوات عملية لحل ملف الموقوفين السوريين في لبنان اجتماع تركي-أميركي في واشنطن غدا لبحث تحقيق استقرار سوريا "نكبة فلسطين.. تسرد حكاية" شعب مشرد ينشد وطناً مآثر ومراثي علّامة الأدب القديم الدكتور محمد شفيق البيطار في ذكرى رحيله الياسمينة المنسية .. نازك العابد.. امرأة قاومت بالكلمة والبندقية خزان "تل المصطبة" يؤمن المياه لقاطني جنوب دمشق  م. درويش لـ "الثورة": خط كهرباء معفى من التقنين.... فضاءات للراحة تحولت لكابوس حديقة الطلائع في طرطوس.. من أكلها الإهمال أم الفساد ؟ "المخطط الفينيقي" منافساً في كان