الثورة- إيهاب زكي جودة:
التطبيع ليس لفظٌا عابرا، ودلالاته الاصطلاحية ليست مجرد وجهة نظر، كما أنّه ليس حقاً فردياً، فآثاره أمانة أجيال ومصير أمة، ومن أسميهم بعملاء الوعي-وهم أشدّ خطراً من عملاء الميدان- يصرون على ترسيخ لفظ التطبيع لا السلام مثلاً، حيث أنّ السلام قد يكون بارداً، ويوحي اصطلاحاً بأنّه ناتجٌ عن عداء، بينما التطبيع يوحي بأنّ الشاذ والنافر هو الطبيعي.
هذا فضلاً عن أنّ التطبيع بطبيعته لا ثمن له، وعلى افتراض أخذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الشأن، وأخيراً ما تسمى المبادرة العربية للسلام بعين الاعتبار، فإنّها لحظت السلام أولاً والتطبيع ثانياً، وعليه يصبح القفز للتطبيع دون المرور بشروطه وهي ما يسمى بالسلام، قطعاً يصبح بلا ثمن، ونحن إذ نعيش اليوم في عصر انتصارات محور المقاومة، يصبح التطبيع في هذه الحالة اعترافاً بالهزيمة، أو بمثابة إهداء نصر المنتصر للمهزوم دون مقابل.
وبعيداً عن الاستثمار الصهيونفطي في الانتهازيين والوصوليين، للدفع بهم إلى واجهة التطبيع، كعاملٍ تشجيعي، فإنّ هناك محاولة للضغط على العقل الجمعي، وذلك في سبيل تصوير التطبيع باعتباره المستقبل الواعد، والحل الأمثل لكل الأزمات، وأنّ الإصرار على العداء لـ”إسرائيل”، هو الوصفة السحرية لشظف العيش وجحيم حياةٍ لا يُطاق، وأنّ هذا العداء عبثيّ السلوك كارثيّ المآلات، وأنّه بمجرد الاستسلام المطلق-التطبيع- ستصبح الحياة والمرتبات والوظائف والكهرباء والمازوت والخبز والمساكن والبنى التحتية، وكل ما يتطلبه رغد العيش في متناول البنان.
ولكن مجرد نظرة عل كل البلدان التي ارتضت بالتطبيع تحت ذات المبررات، نجد أنّها قبل الاستسلام كانت أفضل حالاً، ولنأخذ السودان مثلاً، حيث كانت موجة إعلامية سياسية عارمة، لإقناع الجمهور بأنّ مجرد القبول بالتطبيع، سيكون المدخل لحلّ كل الأزمات المعيشية، ولكن الواقع أنّها أزمات تفاقمت اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، والشئ الوحيد الذي تغيّر، هو أنّ”الموساد” أصبح حليف المتصارعين على السلطة، كما أصبح هو الوسيط بينهم، ويتسابق الجميع على إرضائه، فيما أهدافه الحصرية استكمال تقسيم السودان، من خلال زرع الشقاق والفتن، وصبّ الزيت على نار الخلافات.
وهو المشهد ذاته الذي ومنذ انطلاق ما تسمى بـ”الثورة” في سورية، كنا نقول أنّه الهدف الأوحد لهذه المؤامرة، هو تقسيم سورية، حيث يصبح”الموساد” حليف الجميع ووسيط الجميع ومزود الجميع بالسلاح.
هذا دون أن نستطلع آثار كوارث التوغل”الإسرائيلي” في أماكن أخرى، أو اختراق التطبيع لكل المؤسسات الثقافية والأمنية والعسكرية والسياسية للدولة المطبعة.
وهناك تصوّر آخر خاطئ يتم العمل على تكريسه عن التطبيع، وهو أنّه مجرد حالة تضامنية مع القضية الفلسطينية وانتهت، أو يجب العمل على إنهائها، وهذا تصورٌ غير أنّه فاضحٌ أخلاقياً، فهو فادحٌ سياسياً، لأنّ”إسرائيل” ليست في عداءٍ مع الشعب الفلسطيني حصراً، وأنّ من قام بزراعتها في المنطقة، ليس بدافع العداء للفلسطينيين، بل هي أهداف استتباع ونهب والتسيّد على كل شعوب المنطقة، والعمل عل منع نهضتها وتحررها من الهيمنة الاستعمارية،ويصدق هنا ما قاله الرئيس بشار الأسد “إنّ كلفة المقاومة أقل من كلفة الاستسلام”.
لذلك فإنّ مواجهة التطبيع هو الوجه الآخر للإصرار على تكريس الانتصار وقطف ثماره كاملةً، دون إهداء المهزوم كل ثمرات النصر، التي تعمدت بأطهر المُهج وأزكى الدم.
كاتب فلسطيني