الملحق الثقافي- بيانكا ماضية:
على أنغام (طلعنا على الضو، طلعنا على الريح، طلعنا على الشمس، طلعنا على الحرية)، أفي وعدي لصديق أبي الجزائري الذي كتب لي قبل أن أطأ أرض دمشق: سلمي لي على دمشق الياسمين، سلّمي لي على أبواب دمشق.. ويرسل لي أغنية (ياطير سلملي ع سوريّة ع قلب ودعته بأراضيّا، بلادي الحنونة كل ماصليت ادعي لربي يضل حاميّا) ويتابع: كل حبة هواء، كل رصيف وحارة، كل زقاق، كل حبة عراقة في بلاد الياسمين تعرفني. أخبريها أن حبيبك الاستثنائي ورفيقك في كل الحرب يسلّم عليك، وأخبريها أن حبيبك الجزائري قادم ليحتفل معك، سلّمي لي على دمشق، وعلى أسدها الرابض في عرين العروبة والعزة والفخار والكبرياء الدمشقي، الجالس في قمّة العراقة والحضارة والجمال الإلهي السوري…
دمشق تعرفني جيداً، يارفيقة الدرب الطويل، قبّلي أي شي من دمشق، «كرمال الله» أي حجر، أي عراقة، أي شيء. ثم يرسل أغنية داليدا (كلمة حلوة وكلمتين، حلوة يابلدي) نعم يارفيقة، دمشق تعرفني، وبيروت تعرفني..
ويتابع: حين تصلين دمشق احكي مع هوائها، فهو يعرفني، اختاري أي طفل دمشقي، اهديه أي شي حتى لو كان حبة حلوى، بالله عليك أرجوك ألا تنسي…
سلي أحجارها، سلي أزقتها، سلي الحارات فيها، سلي المسنين، العجائز، سلي أطفال الحرب، سلي نواعير حماة، وقلعة حلب، وكنائس حمص، سلي حارات دمشق، جبل قاسيون، دروب حلب.. ثم يرسل أغنية (يامايلة ع الغصون عيني سمرا سابقتينا يحرق قليبه الهوا شو عمل فينا)..
وصلت دمشق ووفيت بوعدي له، اشتريت من شوكولا حلب وقدّمت لأول طفل رأيته قطعة منها، طفل آت ليشتري سندويشة فلافل من أحد المحال الدمشقية، نظر إلى الكاميرا وتمّ التقاط الصورة لي معه بيد شاب دمشقي، وأرسلت الصورة لصديق أبي الجزائري، فعلّق قائلاً:
هذا هو الطفل وتلك عيناه التي تختصر كل ألم سورية وكل ماجرى فيها من مأساة، هذه عيون البراءة التي اختزلت الحرمان والبؤس، تلك هي العيون التي كنت أريد أن تدخلي إليها الفرحة أو بسمة عابرة، وشيئاً من السرور. نعم تلك هي العيون التي كنت أريد أن أراها، أن أستأنس بها، تلك عيون الطفل الدمشقي التي اختزلت الغربة والأمل والصمود، التي خبأت دفاتر الألم وقصص الحرب، التي رسمت وقالت وتحدّت وأبت إلا أن تحكي للتاريخ رواية أسطورة اسمها دمشق، تلك عيون الطفل الدمشقي التي آلت إلا أن تقول للعالم: أيها الحمقى هنا عاصمة التاريخ، يا حمقى هنا مهد العراقة، هنا تربّت الحضارة يا حمقى، إنها دمشق عرابة أول حرف وأبجدية، يا حمقى إنها مدينة المسيح، فماذا تقترفون، وماذا تفعلون؟ تلك عيون الطفل الدمشقي التي تقول بكل مافيها من أسى، ومافيها من حزن، ومافيها من لوعة، ماذا فعلتم يا حمقى؟ ماذا فعلتم يا قتلة؟ ماذا فعلتم أيها المشردون، أيها المجهلون، أيها اللقطاء، أيها المغمورون، أيها المنبطحون، أيها الجبناء أيها المطايا، أيها الحاقدون، أيها الجاهلون، المعقدون، الملعونون، أيها الشياطين، أيها البقايا، أيها المشوهون الممسوخون، أيها… ماذا فعلتم؟! ألم تقرؤوا أن الشام سنة كونيّة، أن دمشق معلم روحي، ألم تقرؤوا عن معابدها؟ ألم تقرؤوا عن مساجدها وكنائسها؟ ألم تقرؤوا عن عراقتها، عن أحجارها، ألم تقرؤوا عن معلولا؟ عن حلب؟ ألم تقرؤوا؟ بالله عليكم ما أغباكم! … أوصدقتم أنه بإمكانكم أن تقتلوا التاريخ، ألم تعلموا أن القيامة تنطلق من دمشق؟! أيها الحمقى ألم تعلموا أن يوم الدين يبدأ من دمشق، ألم تقرؤوا أن سورية شيء أزلي وأبدي ما أغباكم، وما أشد حمقكم وحقدكم!.
بالله عليك أخبري دمشق أن عرسها بات قريباً جداً، وأن التحضير الكوني يتم على قدم وساق، فكما كان الخراب والدمار كونياً سيكون الفرح والانتصار كونياً.
إن بداية النهاية من دمشق، ستغني جارة القمر السيدة فيروز في دمشق، وستحيي آخر حفل في حياتها، ستحتفي بدمشقها التي أحبتها.. نعم إلى كل العالم، إلى كل من أخطأ الحساب وراهن على سحق التاريخ، إلى كل من اعتقد أن بإمكانه طمس هوية البشرية وإعدام صوت ذكريات الطفولة وحكايات المراهقة، وسلخ قصص الأزقة والحارات والنوافذ والعتبات والنوافير والنواعير وقصص الأسواق القديمة، إلى كل من راهن على سلخ رائحة الخبز والكعك من ذاكرة العراقة، هل بالإمكان أن نوقف سنّة كونيّة، هل بإمكاننا أن نمنع تحقق وتجسّد سنّة كونية، إنها السنّة الكونية، إنها إرادة السماء، إنها إرادة ربانية، إرادة إلهية.
إنها دمشق، وجودها، انتصارها، صمودها، شموخها، عطاؤها، صبرها، عبقها، أيها العالم اسمعوا، أيها الحمقى اسمعوا: سورية حكاية لاتنتهي!.
التاريخ: الثلاثاء22-3-2022
رقم العدد :1088