الثورة – أديب مخزوم:
يقع كتاب الفنان الراحل أسعد زكاري ( 1930 ـ 2020 ) الصادر حديثاً، في 144 صفحة من الحجم الكبير، الورق مصقول والتجليد فني، ومخرج بطباعة أنيقة وفاخرة، بالألوان وبالأبيض والأسود، ومن إعداد زياد كامل (صاحب مجموعة فنية)، ويتضمن بعض لوحاته، من مراحله المختلفة، وبعض المقالات التي كتبت عنه، وبعض الصور الوثائقية التي تعود لمرحلة دراسته في الاسكندرية، ومعارضه الفردية والمشتركة، في الإقامة والاغتراب. وفيه استعادة لمجموعة من لوحاته من بعض مراحله (وخاصة مرحلة أبو الفوارس عنترة بن شداد).
والأهمية الأولى للكتاب تكمن في أنه يسلط الضوء، ولأول مرة، على لوحات كانت مجهولة، وغير معروفة حتى لنقاد الفن التشكيلي والفنانين والمتابعين.
ولقد نشرت في الكتاب بطباعة متقنة تليق بها، كونها حلقة كانت مفقودة من مراحل تطور تجربته الفنية.
ولقد جاءت الكتابات بأقلام مجموعة من الفنانين والنقاد والكتاب، من ضمنهم (طارق الشريف – وعفيف بهنسي – وسلمان قطاية – ونجاة قصاب حسن – ويوسف عبد لكي – وغازي عانا – واسكندر لوقا وغيرهم)، كما تضمن مقالة للفنان يوضح فيها أعماله الفنية التي مرت بعدة مدارس، إضافة لتقديم معد الكتاب زياد كامل، الذي يوضح فيه مراحل تطور معرفته بالفنان وزياراته المتكررة له، التي أدت إلى الكشف عن هذه الكنوز الفنية، ووضعها في دائرة الضوء الإعلامي والنقدي، وبين أيدي الدارسين والنقاد والمتابعين، بعد توثيقها في هذا الكتاب للأجيال الحالية والمستقبلية.
كما يتضمن الكتاب لمحة عن الفنان ودراساته ونشاطاته في الاسكندرية والمانيا الغربية وباريس ودمشق.
واللافت أن الكتاب يقدم أسعد زكاري، بالاسم فقط، بعيداً عن البهرجة الاستعراضية، وهذا من أولى المظاهر الإيجابية التي تطالعنا، لأن اسم الفنان أو الكاتب أو المبدع هو أكبر من كل الصفات والألقاب، لا سيما وأن الفنان أسعد زكاري كان في سنواته الأخيرة بمثابة الزاهد المعتكف على فنه في منزله الدمشقي، بعيداً عن الأضواء، قبل أن يرحل عام 2020 بصمت، وبتعتيم إعلامي مخجل، شأنه في ذلك شأن العديد من كبار مبدعينا، هو الذي كان مأخوذاً ببريق التراث الشعبي، والأجواء الأرابيسكية، والعفوية اللونية، التي ساعدته على تحقيق مظاهر الانفلات المبكر من قيود المنظور التسجيلي التقليدي، بعد أن مر بمرحلة كلاسيكية وسوريالية وصولاً إلى أقصى حدود الانفعال اللوني الصارخ، إلا أنه سرعان ماكان يعود إلى العقلنة، التي تتوازى مع العفوية، فاللون على سبيل المثال كان يضعه، في بعض أعماله، بعفوية وتلقائية تلتقي مع الفن الفطري، وتبتعد عنه في آن واحد، الشيء الذي يؤكد صدق تعامله مع موضوعاته بتقنياتها وتحولاتها المختلفة على الصعيدين التشكيلي والتقني ( مواد وتقنيات مختلفة على الكانفاس والورق والخشب والزجاج وغيرها ).
فهو وعلى حد قوله في الكتاب، مر بمعظم المدارس الفنية، خلال تناوله للمواضيع المختلفة، وقدم لوحات مرتبطة بهاجس تراثي، وتطلع حيوي وصولاً إلى تقديم موضوعات القصص الشعبية بأسلوب خاص تتقاطع فيه الفوارس والسيوف والخيول مع المساحات الهندسية والعفوية.
هكذا ازدادت قناعته يوماً بعد آخر، بضرورة التعلق بالقصص والبطولات الشعبية المجسدة في الفنون الفطرية، حتى وصل إلى حدود التبسيط والاستواء اللوني أو التسطيح الذي نلمسه في لوحاته، بحيث يمكننا الحصول على مساحات لونية في المقطع الواحد أو في المساحة الواحدة من لوحاته الشعبية.
الفنان الراحل أسعد زكاري من مواليد دمشق عام 1930، درس الفن والهندسة المدنية في الاسكندرية في الخمسينيات، وكان فنان الإسكندرية الشهير سيف وانلي أحد أساتذته، في مرسمه الذي تحول بعد رحيله إلى متحف لأعماله.
وهو يشير إلى تأثره برسام المنمنمات الشهير يحيى الواسطي، والرسام الشعبي أبو صبحي التيناوي، وتبدو رسوماته خارج التصنيفات المدرسية الحديثة، فقد كان يستلهم ما ساد في الكتب الأدبية من قصص تطرح موضوعات الحكاية الشعبية البطولية، وذلك للوصول إلى حالة توفيقية بين نبض الحداثة، ونبض البطولات التي وصلت إلى حدود الأسطورة، فالتكوين المرسوم في لوحاته تسكنه روح الشعر وروح الحكاية الشعبية وروح البطولة، ضمن رؤية فنية حديثة وخاصة، فيها هندسة وعفوية بوقت واحد.
هكذا سعى في العديد من رسوماته لإظهار الدمج الحيوي ما بين التشكيل الفني الشعبي وبين المظهر التلويني الحديث والمعاصر، بعد أن تنقل بعدة مراحل، وعالج مواضيع مختلفة، كراقصات الباليه والوجوه، وفي المواضيع الأخيرة برز تفاعله الواضح مع الألوان العفوية الصارخة المتأثرة بالاتجاهات الوحشية في الفن الحديث.
السابق