رفاه الدروبي:
لا تزال ذكرى ناظم باشا ماثلة في دمشق حتى يومنا الراهن، حيث تتجلَّى في كثير من الأبنية، وأهمّها بناء النصب التذكاري في ساحة المرجة المبني من معدن البرونز، إذ وضع في أعلاه مجسَّم لجامع يلدز في اسطنبول، بينما تعود أسباب بنائه تخليداً لذكرى الانتهاء من ربط مدينة دمشق- بيروت، ودمشق- درعا، وذلك عن طريق الخط الحديدي الحجازي، وبمناسبة إنشاء خط اتصال برقي بين المدن المذكورة كانت في محاضرة تحت عنوان: “قصة حي المهاجرين وناظم باشا آخر والٍ عثماني” ألقاها الباحث أنس تللو اليوم في المنتدى الاجتماعي بدمشق.
استهلَّ الباحث تللو حديثه بأنَّه استند في معلوماته إلى مصادر ثلاثة: رواية تاريخية؛ وامرأة معمرة عاشت مدة قرن وعامين وتوفيت منذ ما يقارب أربعة عقود 1879- 1981، أمَّا مصدره الثالث فرواية للقصة من قِبَل كاتب قديم كان كتبها في حينها، وكان حي المهاجرين جبلاً أجرد، ولم يكن فيه سوى بيت واحد لآل “الداغستاني” عام 1895، حيث يخترق الحي طريق جبلي وصولاً إلى قبَّة السيَّار؛ وفيما بعد سُمِّيت المهاجرين “سكة” نسبةً إلى سكة الترام الواصلة بين حيَّي المهاجرين وساحة الشهداء المرجة، لافتاً إلى أنَّ قصر مصطفى باشا العابد كان كبيراً ذا إطلالة رائعة ويقع نهاية الخط ساحة خورشيد. حيث سكنه رؤساء الجمهورية: “علي العابد، تاج الدين الحسيني، شكري القوتلي”، إضافة إلى مقرِّ إقامة المفوضيَّة العراقيَّة، لكنَّ ملكيته تحوَّلت إلى الحكومة السورية فيما بعد، وهُدم قصر العابد أواخر أربعينيات أو مطلع خمسينيات القرن الماضي.
ثم أضاف الباحث تللو: كانت تنسدل على الجانب الأيسر من الطريق المؤدِّي إلى نهاية خط المهاجرين، وعلى يمينه طرق متسلقة إلى الجبل بأرضها الحجرية اللامعة وبأشجارها الباسقة، فيحسبها الناظر كأنها عناقيد من الألماس رُصِفت على جيد فتاة حسناء، حيث يطلق عليها اليوم اسم “الجادات”، وهناك بناء أبيض، كان يوماً ما قصراً لآخر والٍ من ولاة الدولة التركية في دمشق ناظم باشا، ويتميَّز بغرفِه الداخليةِ وأبهائه، وشُرف ونوافذ مضيئة، إذ أمر ناظم باشا أعوانه ببناء مجلس له بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخبها، وخلال ساعة نصبوا له خيمة، فجلس بداخلها؛ أحاطت بها جبال صخرية قائمة فيها روعة وجمال بديع أخِّاذ، والأشجار باسقة، ويجري نهر “يزيد” زاخراً، ومن ورائه الغوطةُ الخضراء لبساتين المِزْة، وخلفه دمشق بأشجارها المزهرة وبفاكهتها المتنوعة؛ تتخللها أنهارٌ وسواقٍ تنساب انسياباً بديعاً كالعروق في راحة اليد.
كما بيَّن الباحث أنس بأنَّ أعمال ومنجزات ناظم باشا لا تزال تُعَرِّف به، باديةً من خلال أبنية دمشق وأزقتها وحاراتها، ثم خرج منها ونفض يديه من كل شيء، ومات ولا يعلم مكانه إلا الله.
كان ناظراً بشؤون الأمن العام في عاصمة الدولة العثمانية اسطنبول، ثم ولاه السلطان العثماني على دمشق ثلاث مرات، ويعتبر من أفضل الولاة أيام الحكم العثماني، نظراً لما له من أيادٍ بيضاء في مجال الإعمار والتنظيم الإداري وإنشاء المشاريع المفيدة للبلاد.
كما عرض الباحث أنس أعماله وأصبحت أوابد أثرية وشاهداً على عصره، وتتجلى في بناء أول مشفى في حي الحلبوني الدمشقي، ودار للحكومة على ضفة بردى عُرفت بمقر وزارة الداخلية، والقشلة الحميدية إذ أصبح مقرها فيما بعد تابعاً لجامعة دمشق، ولا يزال مقرُّ الشرطة على ضفة بردى جانب دار الحكومة ودار المعلمين وشغلته فيما بعد وزارة السياحة، وكلية الحقوق ومديرية التربية، كذلك أنشأ حي المهاجرين الغربي عند سفح جبل قاسيون بدمشق، وذلك لاستيعاب اللاجئين من جزيرة كريت وغيرها، ومنهم اليوم عائلة “كرتلي”، نسبة إلى الجزيرة، وتمَّ تنظيم دوائر الدرك والعدلية، كما جرَّ مياه عين الفيجة إلى دمشق، فأتاح لأهلها شرب المياه العذبة الصافية بعد أن كانوا يشربون من مياه الآبار الملوثة.