الثورة – عمار النعمة
هل نحن أحرار حقاً حين نُحب، نقتني، نختار، نطمح؟
يُفكك المفكر الفرنسي رينيه جيرار في كتابه “الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية”، الذي صدر بترجمة دقيقة وثريّة للدكتور رضوان ظاظا، أوهام الحرية الفردية، ويقدّم واحدة من أكثر النظريات الأدبية والأنثروبولوجية إثارة: نظرية الرغبة المحاكية.
الكتاب، الذي يُعدّ حجر الأساس في فكر جيرار (نُشر أول مرة عام 1961)، ينطلق من تحليل دقيق لأعمال روائية كبرى لكُتّاب مثل سرفانتس، ستاندال، بروست، دستويفسكي وفلوبير، ليصل إلى استنتاج صادم: الرغبة ليست حرّة، بل مقلِّدة، فالإنسان لا يرغب انطلاقاً من ذاته، بل من خلال آخر، وسيط، يعرض له موضوع الرغبة ويوحي له به، وهكذا، ما يبدو رغبة “أصيلة” هو في الحقيقة انعكاس لرغبة الآخر، أو كما يقول جيرار: “نحن لا نرغب في شيء، بل نرغب في ما يرغب فيه الآخر”.
يرى جيرار الباحث في الأدب المقارن والناقد الأدبيّ والفيلسوف والعالم الأنتروبولوجي والعالم الإثنولوجي والباحث في الأديان أن العلاقة بين الإنسان وموضوع رغبته تمر دائماً عبر وسيط ثالث، فتتشكل علاقة ثلاثية (مثلثية)، لا ثنائية كما يوهمنا التحليل السطحي، هذا الوسيط قد يكون شخصاً واقعياً (كصديق أو منافس)، أو خيالياً (بطل روائي أو نموذج اجتماعي)، وهو ما يفسّر، في نظر جيرار، العديد من الديناميكيات النفسية والاجتماعية في العلاقات البشرية، بدءاً من التنافس الغرامي وانتهاءً بالحروب والصراعات الطبقية.
في الأدب، يُحلل جيرار شخصيات مثل دون كيشوت، إيما بوفاري، راستينيك، وغيرهم، ويكشف كيف تُوجّه رغباتهم من خلال وسطاء، ما يؤدي إلى توترات، غيرة، نفاق، وسلوكيات عنيفة، وهذا يقود إلى مفارقة لافتة: كلما اقترب الوسيط من الراغب، تحوّل من نموذج إلى خصم، وتحوّلت الرغبة إلى صراع وعداوة.
من الوهم الرومنسي إلى الحقيقة الروائية
يُقارن جيرار بين “الكذبة الرومنسية” و”الحقيقة الروائية”.
الكذبة هي وهم استقلال الرغبة، الذي تُشيّده المجتمعات الحديثة ووسائل الإعلام والإعلانات، بينما تكشف الروايات الكبرى عن الحقيقة: رغباتنا ليست سوى تقليد مقنّع، ومحاولاتنا للوصول إلى الآخر لا تنفصل عن الحسد والمنافسة والتوتر.
هكذا تتحول الرواية إلى مختبر نفسي واجتماعي لفهم الإنسان، لا عجب أن يُولي جيرار اهتماماً خاصاً بكُتّاب أدركوا هذه الحقيقة وعبّروا عنها بوعي، مثل بروست الذي رأى في التحذلق الاجتماعي شكلًا من أشكال المحاكاة، ودستويفسكي الذي أظهر “التدله الحاقد” تجاه من يُعجب به الأبطال في رواياته، أي الإعجاب الذي يتحوّل إلى كراهية لأن الآخر يمتلك ما لا نملك.
الرغبة والعنف: الطريق إلى الأنثروبولوجيا
ينتقل جيرار في كتبه اللاحقة، خاصة “العنف والمقدّس” و”كبش الفداء”، من الأدب إلى الأنثروبولوجيا، ليُظهر أن الرغبة المحاكية، إذا ما تُركت دون ضوابط، تؤدي إلى عنف شامل.
فحين يرغب الجميع في الشيء نفسه، تنشأ المنافسة، ثم العداء، ثم الصراع، حتى تصل المجتمعات إلى حالة من الفوضى.
ومن هنا تظهر آلية “كبش الفداء” كحل بدائي: توجيه العنف إلى فرد أو كيان رمزي يتم التضحية به لإعادة الاستقرار.
بين الدقة والعمق
الترجمة التي أنجزها الدكتور رضوان ظاظا تُعتبر إنجازاً بحدّ ذاتها.
فالكتاب، بصعوبته الفكرية وتشابك مصطلحاته الفلسفية والأنثروبولوجية، يُعدّ تحدياً في الترجمة، وقد اختار المترجم أن يُرفق النص بعدد كبير من الهوامش الشارحة، لتيسير الفهم وتقريب بعض المفاهيم .
في الختام نقول : ربما لأننا نعيش في زمن يبدو فيه “الاختيار” هو سيد الموقف من العلاقات العاطفية إلى أنماط الحياة كافة يوقظنا جيرار على حقيقة مُقلقة: إن معظم رغباتنا ليست حرة كما نظن، بل مشبعة برغبات الآخرين، موجهة بمثاليات اجتماعية، متشكلة في مرآة ثقافية لا نكف عن النظر إليها دون أن نعي.
الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية
ليس كتاباً عن الأدب فقط، بل هو مرآة لفهم الذات والرغبة والعنف والتاريخ، بأسلوب تحليلي يجعل من الرواية مرشداً لا لفهم السرد فحسب، بل لفهمنا نحن أيضاً .