كان لحلب في أحد فصول الدولة العباسية حاكم اسمه رضوان، وكان نذلاً بخيلاً منبطحاً لحكام أنطاكية من الفرنجة، وكان يدفع الجزية لهم، في الوقت الذي يسدّ أبواب المدينة في وجه جيوش النجدة الآتية من بغداد، فحين هاجم الفرنجة الأتارب وقتلوا رجالها، هربت نساؤهم إلى حلب، فأقفل رضوان الأبواب أمامهن، وطالبه حاكم أنطاكية بتسليمهن له فسلمهن، كما طالبه برفع الصليب على مئذنة الجامع في حلب ففعل.
فثار الناس عليه، وكان من ضمنهم المِجَن الفوعي، ولكن حين إلقاء القبض على المِجَن، لم يقتله رضوان فوراً، بل أراد أن يعرف أين يخبئ ماله، لكنه فشل، حيث كان المِجَن شديد الصبر والصمود، حدّ أنّه كان يوجه الجنود للطريقة المثلى لثقب قدمه من الكعب حدّ العظم، لأنّ سجانيه لم يعرفوا كيف يثقبونها فوجههم، وكان أن وضعوا الحديد المُحمي على رأسه.
ولكن حين يئس رضوان من استخراج المعلومات منه، أمر بقتله مع ابنيه، حينها قال يا أهل حلب، من كان لي عنده دينٌ فقد أعفيته، ولكن حين سأله الناس، كيف وجدت طعم الحديد، قال لهم بل اسألوا الحديد عن طعمي.
وهذا لسان حال السوريين اليوم، إن سألناهم كيف طعم الحديد، سيقولون اسألوا الحديد عن طعمنا، فهذه العشرية التي ذاق السوريون فيها طعم الحديد والنار، لم تنته بعد، ولكن الحديد والنار تبدّلا بالحصار، إنّه الحديد الذي يستهدف لقمة العيش، وبالتالي يستهدف الرغبة في البقاء، كما يستهدف الأمل، فالإحباط هو أشدّ الأسلحة التي يمكن للعدو استخدامها.
لكن في المقابل، فإنّ العدو يخاف من يأس المعتدى عليه، حيث يصبح اليأس دافعاً للمقاومة، فحين تيأس من الغد، تصبح المقاومة هي الخيار الوحيد، حيث أنك ميتٌ بكل الأحوال، لذلك يستخدم العدو سياسة اليأس المفرط والأمل الكاذب، أو كما يُقال سياسة العصا والجزرة، حيث أنّ التخلي عن النصر، يقابله رفع الحصار، وبدل أن يصبح مصيرك رهن نصرك، يصبح مستقبلك رهن عطاياهم.
ولكن سورية التي أذاقت الحديد طعمها في أشدّ الظروف قسوة، ليست أمام خيار التخلي عن النصر، أو خيار استجلاب هزيمة الحصار، حيث أنّ السياسة السورية تجاه الأزمة الأوكرانية، تشي بأنّ سورية اتخذت قرارها الحاسم، بالسعي في طريق النصر حتى النهاية، مهما كانت وحشته، حيث اعترفت بالجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا، وهذا يعني أنّ صانع القرار السوري يرى أنّ عالم القطب الواحد، قد ولّى إلى غير رجعة، وأننا دخلنا عالم الأقطاب المتعددة.
وبما أنّ الصمود السوري كان اللبنة الأولى والذهبية، في ولادة هذا العالم، فإنّ سورية ستكون من أهم اللاعبين في هذه المنطقة في العشرية القادمة، وهذه الأهمية سيترتب عليها حصاد كل ثمار النصر سياسياً واقتصادياً، ومن أذاق الحديد طعمه، لن يُعجزه أن يذيق الصبر كذلك طعمه.