الملحق الثقافي: قحطان بيرقدار:
في الثاني من نيسان، ومنذُ أكثر من خمسين عاماً، يُـحتفَل باليوم العالميّ لكتاب الطفل، ويُصادف هذا التاريخ يوم ميلاد الأديب الدنماركي الشهير «هانس كريستيان أندرسن» (1805 – 1875م) صاحب الروائع في مجال أدب الأطفال (فرخ البط القبيح، الحورية الصغيرة، بائعة الكبريت، جندي الصفيح… إلخ)، ورائد الحكايات الخرافيّة، وصاحب التأثير العالميّ العميق في مجال الكتابة للأطفال.
تُثيرُ هذه المناسبةُ لديَّ شُجوناً عدّة، ولا سيّما أنني أعملُ في مجال الإنتاج الفنيّ للأطفال منذ أكثر من عشرين عاماً، وعلى احتكاك دائم بما يُنتَج ويُقدَّم إلى الأطفال في سورية وخارجها، وذلكَ من منطلق عملي في السنوات الستّ الأخيرة رئيساً لتحرير مجلّة الأطفال «أسامة»، إضافةً إلى عملي في السنتين الأخيرتين مديراً لمنشورات الطفل في الهيئة العامّة السُّورية للكِتاب، كما تُثيرُ شجوناً عدّة حول ما يتعلّقُ بالكِتاب المُوجّه إلى الطفل العربيّ عامّةً، ولعلّنا نلاحظُ أنّ هذه المناسبةَ تُذكَرُ عرَضاً في كلّ عام في عالمنا العربيّ، ويُقامُ بعض الفعاليات إحياءً لها، كما يُقامُ بعض ورشات العمل والمحاضرات والندوات ضمن إطار احتفاليّ شكليّ أكثر ممّا هو تأمُّلٌ بنّاءٌ في واقع حال الثقافة المُوجّهة إلى الأطفال العرب والمستوى الذي وصلت إليه، فهل ما نُقدّمُهُ إلى الطفل العربيّ من كُتُب ودوريات يُشكِّلُ إضافةً حقيقية إلى ما قُدِّمَ إليه سابقاً عربيّاً وعالمياً؟ هل نحنُ أُصلاء في هذا المجال أم مُقلِّدُون؟ هل يُشكِّلُ بناءُ ثقافةٍ حقيقية للطفل العربيّ أولويةً بالنسبة إلينا، أو هو أمرٌ ثانويّ قياساً بما يُقدَّم إلى الكبار من نتاج ثقافيّ؟ وفي خضمّ الثورة الرقميّة وانتشار مواقع التواصُل الاجتماعيّ والألعاب الإلكترونية، هل نحن قادرون على أن نَشُدَّ الطفلَ العربيّ إلى القراءة والاطلاع على ما تُراكِمُهُ المطابعُ من كُتُب وإصدارات مُوجّهة إليه؟ إلى غير ذلك من أسئلة وقضايا أراها جديرةً بالبحث والدراسة والتقييم.
معَ ازدياد عدد دور النشر المُختصّة بالأطفال في البلدان العربيّة، ومع ازدياد معارض كِتاب الطفل والمهرجانات الخاصّة بثقافة الأطفال وما يتّصلُ بها من ندوات وملتقيات، نلحظُ، على نحوٍ أو آخر، أنّ المنحى التجاريّ هو المُهيمن، وهو المُعوَّلُ عليه الأساسيّ في التعاطي مع منشورات الطفل في هذا الزمن الاستهلاكيّ، مع قلّة الجودة الأدبية والفنية لهذه المنشورات عامّةً، ومعَ فوضى عارمة في التعاطي معها، ومن المُؤكَّد أنّ التجارةَ بوسائط النشر للطفل جميعاً لا ضيرَ فيها، وهي حقٌّ مشروعٌ لمن يعملون في هذه الصناعة، ولا ريبَ في أنّ التجارة بكُتُب الأطفال وُجِدَت في أوروبّا منذُ وُجِدَت كتبُ الأطفال، ومنذُ بدأت هذه الكتبُ تُطبَعُ وتُوزَّع، لكنَّ المشكلةَ تكمنُ في أن يكونَ الهدف التجاريّ والربحيّ هو وحدَهُ محطّ اهتمام من يعملونَ في هذه الصناعة.
هذا ما نُلاحِظُهُ يزدادُ حدّةً في مجتمعاتنا العربية، فما من معرض يُقامُ لكُتُب الأطفال إلّا ونجدُ أسعارَ الكُتُب فيه مرتفعةً جداً معَ تدنّي المستوى الأدبيّ والفنيّ في الغالب الأعمّ، فكثيراً ما نُصادفُ في بعض دور النشر المُشارِكة في معارض الكِتاب كُتباً تُركّز على الوعظ الدينيّ المباشر، وكُتباً تتضمّنُ محتوياتٍ متنوّعة لا تلائمُ الطفل، وكتُباً تتضمّن معلوماتٍ وصوراً جُمِعَتْ جَمْعاً دونَ أيِّ ترابُطٍ أو وحدة أو هدف، وكُتُباً لكُتّابٍ جُدد ليسَ لديهم الخبرة الكافية في الكتابة للطفل، نراهم يقعونَ في كتاباتهم في أخطاءٍ لغويّة وتربويّة وأدبيّة وفنيّة تنعكسُ سلباً على الطفل، ولعلّنا نُلاحظُ أنّ عددَ الدُّخلاء وقليلي الخبرة يزدادُ يوماً بعدَ يوم في عالم الكتابة للطفل، بل يُبوَّأُ بعضُ هؤلاء الدُّخلاء وقليلي الخبرة ناصيةَ الإشراف على بعض الإصدارات والدوريات والنّشاطات التي تُوجَّهُ إلى الأطفال في غيرِ مكانٍ من عالمنا العربيّ، وهذا كلُّهُ ينعكسُ سلباً على واقع ثقافة الطفل العربيّ.
إضافةً إلى ما سبق، نلاحظُ تركيزَ عددٍ لا بأسَ به من دور النشر على الكُتُب المُترجَمة لكلاسيكيّات أدب الأطفال في الغرب بترجمات وطبعات تتفاوتُ مستوياتُها من الجيّدة إلى التجاريّة الرديئة، معَ أنّ هذه الكلاسيكيّات لم تَعُدْ تصلحُ لطفل اليوم على نحوٍ أو آخر، معَ ملاحظةِ أنّ غالبيّة تلك الكُتُب تُركّزُ على الشكل الخارجيّ والرسُوم والألوان في محاولةٍ لجذبِ الأطفال وذويهم بناءً على هذا الزُّخرف الشكليّ فحسب، في حينِ أنّ المضامينَ التي تحتويها هذه الكتُب تئنُّ وترزحُ تحت وطأة اللاجدوى وانعدام الفائدة والمتعة، معَ العلم أنّ كِتابَ الطفلّ المثاليّ هو الذي يقومُ على التكامُل الفنيّ الخلّاق بين الشكل والمضمون، فهو ليسَ رسوماً وألواناً برّاقة فقط، إنما هو في الأساس مضمونٌ راقٍ وممتعٌ ومُعبِّرٌ ومفيد.
إذاً أطفالُنا ليسوا في مأمنٍ من فوضى المنشورات التي تُقدَّمُ إليهم، وأصبحت المهمّة المُلقاة على عاتق الأسرة في اختيار الكُتُب المُناسبة والمفيدة لأطفالها مهمةً صعبةً جدّاً في ظلّ هذه الغزارة غير المنضبطة من الكتُب والمجلات وغيرها من وسائط النشر، وهنا يبرزُ دورُ النقد في تمحيص هذه الأكوام الهائلة من المنشورات وتمييز الغثّ من السمين، والنقدُ في هذه الحال يُمثّلُ حالةً توعويّةً للمجتمع ككُلّ حيالَ تلك المنشورات، ويُساعِدُهُ على نحوٍ أو آخر في اصطفاء المنشورات المناسبة للأطفال واستبعاد ما هو غيرُ ملائم لهم ممّا تزخرُ به سوقُ النشر للأطفال في البلدان العربية على اختلاف مُستوياتها، لكنّنا نُلاحظُ أنّ عينَ النقد فيما يخصُّ منشورات الطفل مُغمَضة أو شبه مُغمَضة، فنادراً ما نقعُ على دراسات نقديّة في ميدان ثقافة الطفل تُؤدّي الدَّورَ المطلوبَ منها في توعية المجتمع وإرشاده حيالَ ما يفورُ به واقعُ النشر للطفل من منشورات.
إنّ المسؤوليّة أصبحت مُضاعفةً جدّاً فيما يخصُّ التعاطي مع منشورات الطفل عامّة، ولا سيّما أنّنا هُنا نتعاطى مع أهمّ شريحة في المجتمع، ألا وهي شريحةُ الأطفال، والنتائجُ ستكونُ كارثيّةً على ثقافة أطفالنا فيما لو استمرَّ الأمرُ على ما هو عليه من فوضى واستسهال وتجارة غير منضبطة ودسّ السم بالدسم فيما يخصُّ ثقافة الطفل، وتنحصرُ هذه المسؤوليّةُ بالأسرة أوّلاً، مروراً بالمدرسة، وانتهاءً بمُؤسّسات الدولة ككُلّ، في مُحاولة ضبط هذا السّيل العارم من المنشورات المُوجّهة إلى أطفالنا وإنقاذ ما يُمكنُ إنقاذُه في زمانٍ استهلاكيّ أصبحَ فيهِ الطّفلُ في حدّ ذاتِه سلعةً يُتاجَـرُ بها من وُجوهٍ وأشكالٍ عدّة.
التاريخ: الثلاثاء12-4-2022