في آخر توجهات منظمة الصحة العالمية لحماية أهل الكرة الأرضية من الأمراض التي تصيبهم أدرجت في لوائحها الألعاب الإلكترونية كواحدة من مسببات الإدمان، وكمرض يضر بالصحة النفسية، والبدنية.. وفي الوقت نفسه تطلق شركات الألعاب الإلكترونية مزيداً من جديدها، وهي تروج له على أنه فضاء للتسلية، والبهجة، وفسحة للخروج من واقع معاش قد يبدو غير مريح لأصحابه.
ومؤخراً باتت تروج لأصناف جديدة من ألعابها تعتمد تقنيات الإلهاء بمعدل أكبر من سابقاتها، وتستخدم فضاءات جديدة للسيناريوهات المعتمَدة التي تبنى عليها الألعاب بادّعاء أنها تكافح حالات اليأس، والإحباط، وتبث في اللاعب روح المغامرة، والتوثب للحياة، وتزرع الآمال في النفوس خاصة بعد ما أصاب الناس جميعاً من اضطراب نفسي بسبب ظروف الحجر الصحي غير المتوقع الذي تعرضوا له على مدى عامين، وفقدان وظائفهم نتيجة استغناء بعض الجهات عن عدد من موظفيها تحت الضغوط الاقتصادية التي سادت في الفترة الأخيرة.
العالم لم يعد جريئاً شجاعاً فقط كما وصفه (ألدوس هكسلي) في روايته (عالم جريء شجاع) بعدما اجتاحته المشكلات، والاضطرابات، وأصبح يقف على أعتاب تشكيل ملامح جديدة له على مختلف الأصعدة وأهمها تلك الاقتصادية، والجيوسياسية، بل أصبح أكثر جرأة، وتهوراً أيضاً مع ما باتت تتيحه الرقمية من مجالات لإطلاق الخيال، وللعنف، وللجريمة سواء منها الإلكترونية، أو تلك الأخرى التي تجري على أرض الواقع.. وفضاءات الرقمنة لم تعد تحدها حدود، وهي بالتالي تعِد بالمزيد، وبالجديد منها.
وها هي الرقمية تطلق مؤخراً حزمة من ألعابها الأكثر تطوراً، وكأنها لا تهدف فقط للترفيه وإنما لفصل الناس عن واقع يعيشونه أصبح مأزوماً لدى أغلب المجتمعات، وهي بدورها تسحبهم إليها، وتجذبهم لمتعة لإثارة، والخيال الذي ترسمه، ولوهم القوة، والشجاعة الذي تسربه إلى مَنْ يشتري اللعبة، وينفق جلّ أوقاته في فضاءاتها لاسيما مع توفر التأثيرات التي تحققها تقنية الشاشات ثلاثية الأبعاد، وما يرافقها من أجهزة، ومعدات تجعل من الصورة كواقع يعيشه المرء نابضاً حياً.
وواحدة من تلك الألعاب، مدفوعة الاشتراكات، تدّعي أنها تحارب الاكتئاب فهي تشغل ذهن اللاعب بمفرداتها لتبعده عن همومه، ومشكلاته، إذ أنها تقوم على فكرة الألغاز التي عليه فكها، والتي لا يأتي جوابها لمن فشل في العثور على الجواب الصحيح لها إلا بعد منتصف الليل بساعات، وكأنها تنظم أوقات النوم، والصحو للاعبيها حسبما يحلو لها، لاسيما إذا ما تعاظم الفضول نحو معرفة الحلول.
ترى هل ستنجح فعلاً هذه الألعاب الإلكترونية بجاذبيتها الكبيرة أن تذهب بالخيبة، والاكتئاب، وتحمي من الإحباط حال الخسارة؟.. أم أنها بمفرداتها المرئية، أو المقروءة تمهد طريقاً سهلة نحو استعمار ثقافي جديد يفرض سطوته من خلالها، كما يفرض أفكاره الدخيلة مع لغة أجنبية لم تعد دخيلة بعدما أصبح كثيراً من الناس يستخدمونها أكثر مما يستخدمون لغتهم الأم العربية الصافية؟.
ومع كل هذا فقد أثبتت بعض الدراسات أن مثل هذه الألعاب تفعل فعلها إيجابياً في تعزيز الإدراك، كما أنها تساعد على تطوير القدرات المعرفية العامة، وعلى البحث عن حلول لمشكلات، وهي في الوقت ذاته تشحذ الذكاء هذا الذي لا يكتفي بالعوامل الوراثية فقط بل بالممارسة، والتجربة، لاسيما لدى الأطفال الذين اعتادوا هذه الألعاب منذ سنواتهم الأولى.. ليبرز بالتالي أكثر من سؤال لم تجب عليه حتى الآن الدراسات: في أي اتجاه يُشحذ هذا الذكاء، وأي حلول لا تقارب العنف للمشكلات، بل وأي معارف عامة هذه التي تُكتسب؟.
وإذا كان الهدف من الألعاب أن تحمي من اليأس، والاكتئاب، ولا تورثه بعد الوصول إلى النهايات، فإن مزالق أخرى يصعب الحماية منها منذ البدايات إذا ما استمرت اللعبة الكبرى تفعل فعلها، وتستمر في لعِبها.