الثورة – أديب مخزوم:
قد تشكل قراءتي لمعرض الفنان حمود شنتوت، المقام حالياً في غاليري جورج كامل، خطوة في اتجاه البحث عن عوالم الطفولة والذكريات والإشارات المحلية والتاريخية، وهو يركز لإظهار شاعرية المكان، في خطوات التعبير عن مشاعر الغربة والاقتلاع والأحلام الضائعة، في الأزمنة الراهنة.
تطل الطبيعة في لوحات المعرض كرمز لحلم رومانسي مستعاد، معبر عن بصمة الفنان الخاصة، التي تميز بها منذ انطلاقته الأولى. ولوحات المنظر تسعى هنا لإظهار إيحاءات الانتماء إلى أرض مميزة بقبابها الطينية ومناخها وألوانها، وهو لا يجسد البحيرات والقوارب والطبيعة المائية، المشرعة على النور، إلا ليسجل من خلالها لحظة خاطفة من حلم الواقع، فألوانه آتية من توهج نور الشمس، ومن انحيازها الجزئي والكلي إلى المناخ القادم من تقنية صياغة اللمسة الماهرة الواثقة.
وهو يختلف عن مجمل الفنانين في الحركة الفنية السورية والعربية، في مسألة التعاطي مع مؤشرات الواقع، حيث يطل كفنان متمكن يعرف كيف يكشف ويضيف ويوازن ويستفيد من بحوثه السابقة، في خطوات اختراق رتابة موضوعات المنظر الخلوي والبيوت الطينية والعناصر الإنسانية وأجواء الغرفة من الداخل. والفراغ الذي يحيط بالعناصر، في لوحاته يساهم في الحد من الرؤية التقليدية، ويعطيه خصوصية على الصعيدين التكويني والتلويني.
كل ذلك بلغة فنية تشكيلية بحتة، لا تقع في هاوية الخطاب التقريري والأدبي والسردي، وإنما يأخذها إلى حالة تعبيرية لا تتوقف عند معالجة تفاصيل الأشكال بقدر ما تذهب للتحريف والتحوير والتأويل.
وحركة الخطوط العفوية التي يجريها، تذهب إلى إثبات الحضور الفني، الذي يحول اللوحة إلى فسحة بحث تشكيلي، والمعرض يؤكد بحثه التقني وملامح تنقله، من رقة النعومة في معالجة السطوح، إلى إضفاء المزيد من الكثافة اللونية، من دون أن يخرج عن مناخه الأسلوبي والتشكيلي، الذي يتكرس ويتوضح من لوحة إلى آخرى.
وهو يمارس حريته في إبراز حركة الخطوط العفوية المنسابة بدرجات خفيفة من اللون الأسود، ويفتح أمدية داخلية، في وقت يستطيع فيه أن يحافظ على مساحات وحركات العناصر والإشارات، التي تبرز في أحيان كثيرة كرؤى خيالية مرتبطة بالواقع وبعيدة عنه في ذات الوقت.
وتبدو لوحاته في مظاهرها وإيماءاتها الرمزية والخيالية والروحية، مشرعة على احتمالات التنقل بين التأثيرات البصرية المختلفة، والسطوح المنفذة بوسائل تقنية، تدخل فيها الألوان التي يركبها بخبرته الخاصة، مع التركيز لإظهار حركة الأشكال المحورة والمحرفة.
ويتجه إلى معالجة عناصر المرأة الرمز، ويجعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات البياض، مع إعطاء أهمية للأشجار التي يقدمها بطريقة خاصة، تقترب في أحيان كثرة من شكل المظلة.
هكذا يقدم حمود شنتوت في تشكيلاته التعبيرية الحديثة، عناصر أو مواضيع متنوعة بصياغة فنية خاصة، تهتم بإبراز” الكونتراست اللوني” ، واللوحة بالنسبة إليه تبدو بمثابة محطة حوارية بين الماضي والحاضر، وثنائية التراث والمعاصرة (الأوابد الحضارية والقباب الطينية والبيت القديم من الداخل) وتبرز قيمة التشكيلات هنا في الحساسية المتمادية في التحوير، إلى درجة تجاوز المعايير التشريحية، وهذه المعادلة تتطلبها الأعمال الفنية الحديثة والصادقة.
ونرى في بعض لوحاته ما يشبه التشكيلات المبنية على عناصر ذاتية، بمعنى أنه حين يعمل على إظهار عوالمه، فإنه يتجاوز الدقة، ويذهب لإضفاء أجواء عفوية بحساسية خطية ولونية، تتجاوز السياق البصري الساكن والمقروء في الهندسية التشكيلية (رغم وجود الخطوط الهندسية الأفقية والعمودية التي تحدد شكل البيت).
وكان شنتوت في بداية انطلاقته الفنية في دمشق في الثمانينيات (بعد قدومه من محترف البوزار في باريس) قد نفذ الكثير من اللوحات التي تصور العناصر المحيطة به، والتي تدخل في حياته اليومية، فقد رسم الأجواء المحيطة به التي شكلت منطلقاً في تجاربه اللاحقة لاستعادة تداعيات عوالمه، رسمها مهتماً بالتدرجات الضوئية، وبإيقاعات الأشكال المضيئة في فضاء أسود، وكم مرة رأينا إيقاع الأحمر يبرز كشريط حريري في مساحة سوداء. هكذا نجد أن لوحاته ومنذ البداية شكلت فسحة للاستمتاع بتأمل وهج انبعاث النور الذي يشع من خلفية الموضوع، ويضفي على اللوحة غنائية نورانية حاملة فسحة صوفية روحانية، حيث يركز في أحيان كثيرة لإظهار جمالية إشعاعات المساحة المضيئة (مثل نافذة قوية الضوء مفتوحة من داخل غرفة مظلمة) بحيث تظهر ومضات الضوء كنقيض متعارض مع سكونية الامتداد اللوني الداكن الذي يشكل أرضية اللوحة.