عبد الحليم سعود :
آمنت سورية بالحوار كمبدأ أساسي لحل الأزمة السياسية المفتعلة في البلاد منذ بداية الأحداث عام 2011 وقدمت الدليل تلو الدليل على رغبتها ومصداقيتها في هذا الاتجاه منذ المؤتمر التشاوري الذي عقد في منتجع صحارى بدمشق صيف العام 2011 والذي جمع طيفا واسعا من ممثلي الشعب السوري ومكوناته الوطنية، وكانت سورية ومازالت جادة كل الجد في الوصول إلى حل سياسي سلمي يحقق مصالح شعبها ويلبي تطلعاته وطموحاته، ويرضي كل الأطراف الساعية لحماية بلدها والحفاظ على ثوابتها الوطنية، وذلك كيلا تنزلق البلاد إلى ما انزلقت إليه من فوضى وحرب وإرهاب نتيجة تكالب وتآمر بعض القوى الدولية المعادية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وربيبتها “إسرائيل” ممن استعملوا وجندوا في سبيل تمرير أجندتهم الشيطانية بعض ضعاف النفوس في الداخل من المتآمرين والحاقدين إلى جانب الكثير من المغرر بهم على أمل تحقيق أجندتهم التخريبية في إخضاع الدولة السورية وتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يطيح بقضية فلسطين، ويشرذم المنطقة العربية ويقسمها إلى كانتونات طائفية عرقية متصارعة.
فمنذ البداية سعت الدولة السورية لتوفير البيئة المناسبة للحوار كإصدار قانون الأحزاب وإصدار العديد من مراسيم العفو وتشجيع السوريين على الحوار في دمشق، حيث عقدت العديد من الفعاليات لبعض رموز المعارضة الداخلية، وسمح لها بالنشاط في إطار الدستور والقوانين، واستقبل السيد الرئيس بشار الأسد في قصر الشعب أطيافا وفعاليات سورية متعددة “شعبية وحزبية ودينية ومجتمعية” واستمع إلى طروحاتها ومطالبها ومعاناتها، وكانت المراسيم التي تصدر عن الرئيس الأسد تباعا تراعي وتستجيب لكل ما كان يطرح ويناقش في جلسات الحوار.
الضغط الخارجي الذي مارسته الولايات المتحدة بصورة خاصة على ما تسمي نفسها “المعارضة” جعلها ترفض الحوار وتختار منصات للتآمر على بلدها كمنصة الدوحة واسطنبول والقاهرة والرياض وغيرها من المنصات، ولعل الجميع يتذكر كيف حرضت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد أوباما هيلاري كلينتون على رفض الحوار والتشبث بالمطالب التعجيزية التي تم الإعلان عنها خارجيا ضمن ما يسمى مشروع “الانتقال السياسي” المبهم، وكيف كان ينتقل السفير الأميركي بدمشق بكل وقاحة من منطقة إلى أخرى لتشجيع الجميع على إثارة المشكلات وتعميم الفوضى، مؤملاً إياهم بأن الولايات المتحدة ستتدخل بشكل عسكري لدعم مطالبهم وتحقيق المشروع المعادي.
وفي مرحلة لاحقة بدأت خيوط المؤامرة تتكشف مع دخول الجماعات الإرهابية على خط الأزمة، حيث كان لزاماً على الجيش العربي السوري مواجهة الإرهابيين وإحباط مشروعهم التدميري، دون أن تتخلى الدولة السورية لحظة واحدة عن مبدأ الحوار، وقد تجلى ذلك بعمليات المصالحة الوطنية والتسويات التي جرت وتجري في كل المناطق التي عانت من الإرهاب، وعادت إلى كنف الدولة السورية.
بالإضافة إلى ذلك لم ترفض الدولة السورية أي مطالبة أو مسعى خارجي للحوار حيث استجابت لدعوات الحوار التي أطلقتها روسيا وذهب ممثلو الحكومة السورية إلى موسكو وسوتشي من أجل ذلك، كما شارك الوفد العربي السوري في جلسات تفاوض وحوارات كثيرة في جنيف برعاية الأمم المتحدة، ومازالت اللجنة المخصصة لمناقشة الدستور بمشاركة جميع الأطراف تعقد في جنيف برعاية أممية حتى الآن، ولكن التدخلات والضغوط الغربية والأميركية والتركية وغيرها قد حال دون التوصل إلى اتفاق حتى الآن، حيث ظهر ارتهان ممثلي ما يسمى المعارضة السورية لمشغليهم الخارجيين بشكل واضح.
وحتى من نستطيع أن نطلق عليهم عملاء كميليشيا (قسد) ذات المشروع الانفصالي، لم تغلق الدولة السورية الحوار في وجوههم، حيث شهدت قاعدة حميميم جلسات حوار عديدة مع ممثلين عن هذه الميليشيا برعاية روسية على أمل إخراج هؤلاء من حالة العمالة والارتهان للمشروع الأميركي، وإعادتهم إلى المشروع الوطني السوري الجامع وتجنيبهم الوقوع في فخ النظام التركي الذي يرى فيهم تهديداً لأمنه القومي المزعوم ويستخدمهم كشماعة لتحقيق أطماعه التوسعية في سورية.
لقد كان السيد الرئيس بشار الأسد جريئاً وواضحا في تغليب ثقافة الحوار على ما عداها حين أكد في المقابلة الأخيرة مع قناة روسيا اليوم بالقول: “أحياناً نضطر حتى لمحاورة العملاء”، في إشارة إلى (قسد) وأولئك الذين يعملون ضمن الأجندة التركية، أي الوفد الذي سمته الحكومة التركية للمشاركة بلجنة مناقشة الدستور، لكنه شدد على التمسك بالمسلمات والثوابت الوطنية السورية، وأن يكون الحوار بين السوريين أنفسهم، إذ ليس مقبولاً بأن يكون هناك طرف سوري في الحوار يعبر عن تطلعات الحكومة التركية التي برهنت بالدليل القاطع عن أطماع توسعية وأهداف عدوانية داخل سورية.