الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
هل يجوز سؤال الوردة عن سرّ فوح عطرها، والينبوع عمّا وراء انبثاقه المحموم، والشمس عن إشعاعها، والشفق عن احمراره؟!
ليست الكتابة «الإبداعيّة» مرافعة ضدّ مجهول، ولا تظلّماً في صندوق الشكاوى، ولا بوحاً لمن يهمه الأمر، أو لا يهمّه، ولا رسالة بلا عنوان بريد، ولا تغريدة شاردة، أو رعشة ذات نشوة، ولا حداءَ سارٍ، أو أنّة، أو صرخة، أو جرعة، أو لقاحاً، أو مسكّناً، أو أُلْهِيَة، أو سكرة، أو صحوة، أو خفقة، أو نسمة، أو ومضة، أو آخرة!
وقد تكون كلّ هذا وسواه؛ ممّا لا يحدّ، ولا يفسّر، ولا يُؤوّل، ولا يحتويه فضاء، أو يراوده حاوٍ، ولا يتمكّن منه صيّاد، ولا تجاريه ريح، ولا تخاصبه نبتة، ولا تنادمه فطرة، ولا تحاذيه إشراقة، ولا تبوتقه بذرة…
*
وليست كلّ كتابة إبداعيّةً؛ فقد يصحّ العزم وتأبى الملَكات.
وليست الكتابة لبعض الناس دون الآخرين؛ مع أنّها تعوّل على مريديها، وتنفتح على متمثّليها؛ ليتهم يقدرون على رحيقها!
وليست الكتابة تطهّراً وتطهيراً فحسب؛ وليتها تكفي!
وليست فعل ندامة، عمّا قد نقترف، أو لا نقترف؛ عمّا نهجس به، ونتنابز، ونتقاوى به وعليه.. فحسب؛ بل عمّا يُقترف، أو لا يُقترف لدينا، ولدى مختلف الكائنات.
وليست- فقط- وسيلة، ونهجاً، وسمتاً؛ بل هي- أيضاً- همّ وقناعة وإيمان؛ وهي طقس وأداء وتوق إلى الحقّ والحقيقة.
*
هل أحاول أن أقبض على السرّ؟! أيّ محال هذا؟!
هل أريد أن أكتب، أقصد أن أكتب؟! أيّ تجبّر هذا؟!
هل أرفض أن أكتب، وأستصغر من يكتب، وأستخفّ بما يُكتب؟! أيّة مكابرة هذه؟!
هل أودّ أن أعرف ما أريد من الكتابة؟! أيّ ادّعاء هذا؟!
هل أستطيع تقدير ما أتطلّع إليه من الكتابة؟! فقد «جلّ أن يُسمى»!
*
هل أزعم أنّي سأعتلي العرش بالكتابة؟! «أبشرْ بطول سلامة».. أيّها التاج!
هل أحسّ أنّني أتخلّق، وأختلق، أتحرّر وأنعتق، أتسيّد وأحلّ، وأتحلّل، وأحترق، أتطاير، وأتمادى، أنفرد، وأرتفق، وأتماهى؟! أيّة نشوى هذه؟!
لماذا أحرق ما كتبت؛ وأعود لأكتب؟!
لماذا أكون ممتلئاً مقلقلاً غير متّزن، حتّى يأتيني المخاض على الورق؟!
لماذا أشعر بالخيلاء، بعد أن أكتب، والاعتزاز بما كتبت، ولا أشبع، ولا أرضى؟!
هل أكتب إلّا لنفسي؟! فخذوا منها ما طاب لكم!
هل أطلق إلّا نفثاتي؟! ولكم أن تتحرّقوا، أو تتفرّقوا!
هل أترك إلّا بصماتي؟! ولكم أن تتدبّروا!
هل أفعل هذا برغبة، أو حاجة، أو ضرورة؟! أم أنّي أحتلّم، أو أتوهّم، أو أتدثّر، أو أتطاول، أو أتشظّى، أو أقترف، أو أعترف؛ وهل من سبيل آخر؟!
*
لكم الكثير، ولي ما أكتب؛ ولكم.
لكم أن تعيّروا بما أحسّ، ولي أن أحسّ، وأكتب.
لكم أن تفوزوا بالولائم والغنائم، ولكم الهزيمة والعار؛ ولي أن أكتب.
أنا لا أتهرّب من المسؤوليّة، ولن تفوتني الخسارة، ولن يرحمني المسطّرون، وقد يشفع لي ما أكتب.
لستُ بلا خطيئة، ولست بلا إثم، ولست بلا نظر، ولست بقادر على ردّ الظلم؛ ولكنّي أحاول، وأكتب.
لكم أن تنتسبوا، وتنتموا، وأن تتفاخروا، ولي ما يشير إليّ في ما أكتب.
لكم ما ترغبون فيه، ما تتشهّون، ما تستزيدون منه، ولي نصوصي الجائعة، الراعفة، الشافعة.
لكم السؤال والجواب، والأمر والحساب؛ وما تزال أسئلتي بلا ردود!
لكم الحدود والبنود، وليس لشغف سطوري نهاية.
أنتم الخصم والحكم، وفي كتابتي الحساب.
أنتم الأصل والحكاية، المبتدأ والخبر، ولي البحث عن السبب، والخوض في المعنى، والتساؤل عن الغاية!
لم أقصّر في القول، ولا في الكتابة، ولا تسمعون، ولا تقرؤون؛ فكيف تعلمون، وتعملون؟! وكيف تنجحون؟! ألهذا تتّهمون، وتتشفّون، قبل أن تتبيّنوا؟!
ألهذا تتودّدون، وتكرّمون، وتتظاهرون، وتتباركون؟! ومن ثمّ يكون الانتقام؟!
لكم أن تتبنّوا، وتدّعوا، وتزعموا، وتتسلّحوا، وتتسلطنوا، وتغتنوا…؛ ولي أن أكتب!
لكم أن تتبارزوا، وتتفانوا، وتتتاخموا، وتتجاسروا، وتتشدّقوا، وتعتدوا، وتهيمنوا… ولي أن أكتب!
لكم أن تتزاوجوا، وتتشابقوا، وتنتشوا، وتسكروا، وتتناخبوا، وتعربدوا، وترقصوا، وتخيبوا، وتنهزموا، وتسقطوا، وتغيبوا؛ كأن لم تكونوا؛ ولي أن أكتب!
لكم حصونكم وأسواركم وأبراجكم وحرّاسكم؛ ولي أن أكتب!
لكم رحلاتكم ويخوتكم وذهبكم وأموالكم؛ ولي أن أكتب!
لكم عسسكم، وحرسكم، وتابعوكم، ومادحوكم، ولياليكم، وعطاياكم؛ ولي ما أكتب!
لكم حاضركم، وليس لكم ماض، ولا مستقبل؛ ولي ما أكتب!
ستغيبون، وتتلاشون، وتذهب ريحكم، وسيبقى ما كتبت.
ومن يعش يرَ!
*
هل كنتم قبل أن أكتب؟! وستكونون بعد أن أكتب؟!
هل كنتم كي أكتب؟! أم أكتب لتكونوا؟!
هل كنتُ قبل أن أكتب؟! وهل سأكون بعد أن أكتب؟!
هل كنتُ لأكتب؟! أم كتبت لأكون؟!
***
العدد 1100 – التاريخ: 21 – 6 – 2022