الثورة – فؤاد مسعد:
حملت الأعمال الدرامية التلفزيونية السورية منذ انطلاقتها هماً توعوياً وهدفاً لم تكن تحيد عنه ضمن إطارها العام، ممارسة دورها في المجتمع منطلقة من قناعة صنّاعها على قدرتها في التأثير بالرأي العام إلى درجة تستطيع فيها أحياناً تكريس مفاهيم وقيم معينة وتغيير أخرى، عاكسة بشكل أو بآخر صورة بصرية عن الواقع في فترة تاريخية بعينها معبّرة عن احتياجاته، وكثيرة هي الأمثلة التي تترجم هذا الكلام خاصة في مرحلة الأبيض والأسود وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حيث ظهرت أعمال تحاكي المشكلات العامة، كالتعليم ومحو الأمية والإرث والثأر والإصلاح الزراعي وحقوق العمال وتنظيم الأسرة والعادات والتقاليد البالية، إضافة إلى المقارعة بين العلم والدجل وبين الطب والخرافة، كما تناولت العديد من الأعمال نظرة المجتمع إلى المرأة ومكانتها فتارة هي مظلومة مستكينة أو باحثة عن طريقة لنيل حقوقها وتارة أخرى هي امرأة استطاعت لعب دورها الفاعل ضمن محيطها.
شكّلت هذه القضايا محط أنظار المجتمع آنذاك حيث كانت تتضافر الجهود المختلفة (ومن بينها الدراما) لنشر حالة من التنوير والوعي حولها وإيصال الرسائل المتنوعة إلى المشاهد، فأتت أكثر التصاقاً بالواقع ومعبرة عنه وعن همومه الحقيقية ومشكلاته، مسلطة الضوء على مختلف مناحي الحياة بما فيها من قضايا وعلاقات إنسانية، تنقل بتصرف وبرؤية فنية وإبداعية ما يمر به المجتمع من تغيرات وتحولات.
كان يؤكد المخرجون والكتاب والمبدعون آنذاك على ثوابت أعمالهم التي تحمل جرعة معرفية وفكرية تتعاطى مع الواقع على أكثر من مستوى بمصداقية ومسؤولية، مشددة على مجموعة من القيم والأخلاقيات والسلوكيات بما يتلاءم مع طبيعة المجتمع، مُقدمة ذلك كله ضمن إطار حكائي تشويقي يحمل متعته ما كان يحقق حضوراً لائقاً عند المشاهدين، تلك الأعمال سمت الأمور بمسمياتها وحملت جرأتها التي غاصت إلى عمق الواقع ونهلت منه. ولكن انحرافاً خطيراً تسلل منذ أواخر القرن الماضي على آلية التعاطي مع قضايا الواقع، ومع مرور الزمن أخذ هذا الانحراف أشكالاً متعددة محاولاً خلق بيئة يتجذر حضوره من خلالها، ما جعل كفة الإنتاج عند البعض تميل شيئاً فشيئاً نحو التخلي عن الدور الحقيقي للدراما في المجتمع، وتحول الاهتمام نحو قضايا أخرى تأخذ في باطنها مساحة أكبر من الأهمية للمنحى التجاري، ما أثّر بالضرورة على طبيعة الموضوعات والهموم المطروحة في هذه الأعمال وعلى الصورة التي تُقدم من خلالها على الشاشة.
نصف الكأس الفارغ يقابله نصف كأس ملأن تمثّل بعدد من الأعمال التي غردت خارج السرب محاولة إثارة ما يلامس المجتمع حقيقة بجرأة تارة وبمواربة تارة أخرى، ورغم أنها لا تشكّل اليوم حالة يجمع عليها الغالبية إلا أن حضورها عادة ما يحقق صدى مختلفاً عند الجمهور ما يجعلها تعتبر حافزاً للمنتجين لإنجاز أعمال أخرى، ولكن مما لا شك فيه أننا بأشد الحاجة إلى مزيد من الأعمال التي تحمل فكراً نيراً ورؤى للحياة وتطرح بجرأة موضوعات ملتقطة من صميم واقع المجتمع وقضاياه بعيداً عن التغريب الذي لجأت إليه أعمال همها الوحيد أن تحصل على أعلى نسب مُشاهدة.