قبل أسبوع من توقيع الاتفاقية التي تتيح تصدير الحبوب عبر الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية في ١٤ تموز الجاري رفع العقوبات المفروضة على “غاز بروم، ألمانيا” إحدى شركات غاز بروم، وأعلنت أيضاً السماح بالمعاملات مع روسيا المتعلقة بالأسمدة والأغذية والبذور والأدوية والمعدات الطبية.. ما الذي يعنيه هذا التراجع؟
بيانات البيت الأبيض، الخارجية الأميركية، والاتحاد الأوروبي، رحبت بتوقيع الاتفاقية في إسطنبول بينما كانت روسيا والأمم المتحدة توقّعان مذكرة تفاهم مدتها ٤ سنوات لضمان توريد المنتجات الزراعية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية.. ما الذي ينطوي عليه هذا التوقيع إضافة لرفع العقوبات المفروضة على روسيا؟ وهل هو إلا شكل من أشكال الخضوع الأميركي الأطلسي من بعد رفع السقوف التي اعتلاها الجانبان في العقوبات والتهديدات التي بدأت قبل خمسة أشهر “٢٤ شباط ٢٠٢٢”؟
إذا كانت لغة بيانات الترحيب الأميركية الغربية بتوقيع الاتفاقية لم تخل من عبارات التشكيك بروسيا، وإذا كانت ازدحمت بالمقولات التي تتوعد بمساءلة موسكو ومحاسبتها إذا أخلّت بالتنفيذ، فذلك لحفظ ماء الوجه ولعدم تقديم اعتراف كامل بالخضوع واستغراقاً بالإنكار الذي يعتقد أصحابه أنه قد يوقف حالة الانهيار التي بدأت في بريطانيا وإيطاليا، وقريباً ربما في الولايات المتحدة، حيث انتخابات الكونغرس النصفية.
بنود الاتفاقية التي تعني الخضوع والإخضاع لأميركا والأطلسي، تمنح موسكو السيطرة الأمنية على الموانئ والسفن، أي أن الأمن البحري بيدها لا بيد خصومها مع ما يعنيه ذلك من منع وصول شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، وإن في توقيع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لا وزير الخارجية سيرغي لافروف الاتفاقية من المعاني الأمنية والعسكرية ما لا يخفى على أحد، وما لا تستطيع إنكاره واشنطن وعواصم القارة العجوز.
الاتفاقية كخطوة أولى في التراجع الأميركي الأطلسي لجهة النزول عن السقوف المرتفعة التي صعد إليها الغرب وأميركا لن تكون الخطوة الأخيرة وستعقبها خطوات أخرى تعتمل كل الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية ليس هناك فقط حيث يدور الصراع، بل المنعكسات ستبدو واضحة في الملفات الدولية الأخرى والإقليمية، لا استثناءات ستقبل في تايوان أو في النووي الإيراني، ولا في منطقتنا التي كانت مسرحاً محتملاً لنقل الصراع إليها.
هنا قد يكون مفيداً لأصحاب الذاكرة الضعيفة تذكيرهم بأن رفض الغرب وأميركا ملاقاة روسيا في منتصف الطريق هو ما أوصل الأطلسي وواشنطن إلى هذه الحالة، بل قد يكون مفيداً تذكيرهم أيضاً بما جرى توقيعه بين روسيا والصين في ٤ شباط الماضي أي قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس بعشرين يوماً.
الإشارة في البيان الروسي -الصيني المشترك الموقع في شباط الماضي كانت صريحة معلنة من أن العلاقات الدولية تدخل عهداً جديداً تحاكي المتغيرات التي ستقود حتماً لبلورة نظام عالمي جديد يعيد التوازن في العالم، بقطبية متعددة تطوي صفحة القطبية الأحادية، وتفرض منظومة حوكمة عالمية تحترم التنوع الثقافي العالمي، والمصالح الوطنية للدول في أربع جهات الأرض، وتكبح العبث الأميركي في المحيطين الهندي والهادي فتدفن الناتو وأوكوس كأداة استخدمت في التهديد والوعيد ومحاولة فرض معايير مرفوضة للديمقراطية المزعومة.. إن الإخضاع جار، والخضوع حتمي.