الملحق الثقافي-فاتن أحمد دعبول:
انتزع الكثير من الألقاب واستحقها بجدارة، نظراً لتعلقه باللغة العربية والعمل على حفظها وصونها من اللحن والتشويه، فكان فارسها وحصنها المنيع، وكان أمة في رجل، وكان المدافع الأكثر قوة وفصاحة، فقد جمعت مقالاته أطياف العربية وعلومها وآدابها وفنونها وتاريخها وحضارتها.
ومن أقواله» اللغة صفة الأمة في الفرد، وآية الانتساب إلى القوم، فمن أضاع لغته، فقد نسبه وأضاع تاريخه» كلمات ذهبية يعبّر بها الأديب اللغوي مازن المبارك عن حبّه للغة العربية واعتزازه بها ورفعه لرايتها ودفاعه عنها أينما كانت.
وهو إلى جانب إحاطته بالنحو والصرف والإعراب والمعاجم وفقه اللغة وعلم الجمال وفنون الأدب وبراعة البلاغة وضوابط الإملاء وأصول الخط، فإنه مبدع في الأدب والنقد والتاريخ والتفسير والتربية، ويكتب في موسميات واجتماعيات وفكر وحضارة وثقافة وفلسفة، ويعرب المصطلحات ويترجم لشخصيات قديمة وحديثة ومعاصرة، ويعرف بمناهجهم ومؤلفاتهم ويناقش أفكارهم، ويشرح أهدافهم ويقتدي بهم وينسج على منوالهم، إنه حقاً رجل في رجال، فقد جمع الله له المجد من أطرافه» علو في النسب، وجمال في الأدب، غزارة في العلم، وفصاحة في اللسان».
يقترن الدكتور مازن المبارك في ذاكرتي بالسنة الأولى في قسم اللغة العربية وقد كنت طالبة حديثة العهد في كلية الآداب، وكان استاذي القدير الذي يستطيع بأسلوبه الماتع أن يجعل الطلاب جميعهم يؤخذون بطريقته المبسطة في شرح قواعد النحو والإعراب، لتستقر المعلومة في ذاكرتنا وتصبح عصية على النسيان.
كان حديثه يجمع بين الفائدة والمتعة على نحو عجيب، فبينما تراه يدفع عن لغتنا ما لحق بها من أذى ويذود عنها ذود الفارس الهصور، إذا هو يطرفك بأرق النوادر ويسمعك أعذب الأحاديث والخواطر ويضفي على الحصة الدراسية المزيد من المرح، فكنا لا نمل درسه، بل يمضي الوقت سريعاً، وكنا نحرص أشد الحرص على المثابرة على دروسه الغنية والممتعة.
سيرة علم ومعرفة
ولد الدكتور مازن المبارك في دمشق سنة 1930، ونشأ في أسرة علم ونسب شريف، فوالده الأستاذ عبد القادر المبارك، وهو عالم كبير ولغوي ثقة، تلقى الكثير من المعارف اللغوية والأدبية والدينية على شيوخ عصره، كالشيخ أمين سويد، والشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ عطا الكسم، وكان الأستاذ المبارك راوية، حافظاً لكتب الأخبار والتراجم والتاريخ، والأستاذ محمد المبارك الشقيق الأكبر للدكتور مازن أيضاً هو عالم لغوي ومرب معروف.
فالبيئة التي نشأ فيها الدكتور مازن المبارك بيئة علمية، كانت تهتم باللغة العربية اهتماماً واسعاً، لذلك نشأ على حبها وتشربها منذ نعومة أظفاره.
لأجل ذلك امتاز بثقافة واسعة، وانكباب على العلم والتعليم والتصدي للتأليف، وقد جمع بين ما تلقاه من أسرته وبيئته، وما حصله من تخرجه في مستويات التعليم المنظم حتى اجتمع له ما لا يجتمع لأقرانه.
ويعد الدكتور العلامة مازن المبارك أحد أوعية العلم بالعربية وعلومها في زماننا، نهل من أبيه وأخيه، ثم أخذ العربية عن أكابر أربابها في الشام ومصر، فقد تتلمذ لشاعر الشام الكبير محمد البزم وشيخ نحاة العصر سعيد الأفغاني، كما انتفع بأساطين العربية المؤسسين لقسمها في جامعة دمشق، أمثال د. أمجد الطرابلسي والشاعر الأديب شفيق جبري وعز الدين التنوخي والشيخ بهجة البيطار.
ثم ارتحل في طلب العلم إلى مصر، فصحب نخبة من علمائها من أمثال عميد الأدب العربي د. طه حسين، وسشيخ مؤرخي الأدب الدكتور شوقي ضيف، والأستاذ مصطفى السقا، كما أفاد من مجالس شيخ العربية الكبير وفارسها محمود شاكر وغيرهم كثير، ليعود إلى جامعة دمشق أستاذاً للنحو وتاريخه وأصوله والبلاغة وتاريخها.
تنقل في غير جامعة في دول عربية متعددة، بدءاً من جامعة دمشق ومروراً بجامعة الملك عبد العزيز في الرياض، والجامعة اللبنانية ببيروت، وجامعة قطر التي رأس قسم اللغة العربية فيها، ومعهد اللغة العربية بالجزائر، وكلية الدعوة في ليبيا، وانتهاء بكلية الدراسات العربية والإسلامية بدبي التي رأس فيها قسم اللغة العربية أيضا، ثم عاد إلى الشام من جديد ليشرف على الدراسات العليا بقسم التخصص بمعهد الفتح الإسلامي، وليتوج رحلة عطائه الغنية بانتخابه عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق.
وللإنصاف لابدّ أن نذكر أن عمله لم يقتصر على المعاهد والجامعات، بل امتد إلى المساجد والمراكز الثقافية والبيوتات، فهو لا يدع باباً يمكن أن يرفع فيه للعربية راية إلا طرقه، لقد جاهد في سبيلها حق الجهاد، ونافح عنها حق المنافحة، وآل على نفسه أن يبث محبتها والوعي بها وبأهميتها حيثما حل وارتحل، إنها همّه وقضيته التي يحيا لها، وقضى جل حياته دفاعاً عنها.
مؤلفاته ودراساته
ومن يبحث في آثار الدكتور المبارك يدرك أهمية ما أنتجه من بحوث ودراسات وتراجم، فقد رفد المكتبة العربية ببحوثه وكتبه، وقدّم لها أجمل وأبدع ما يمكن أن يقدّمه ابن بار للغته وأمته، على أن أجلّ ما صنعه تلك الروح التي نفخها في كتبه، وبثها في مقالاته، ولقنها طلابه وتلامذته وقراءه» أعني حب العربية» والذود عنها، وإعلاء شأنها، ونشر أطايبها وروائعها، وتحبيب الناس بها.
أما مؤهلاته العلمية فهي الإجازة في الآداب من جامعة دمشق
الماجستير في الآداب من جامعة القاهرة في العام 1975
دكتوراه في الآداب من جامعة القاهرة 1960
وشغل الدكتور مازن المبارك العديد من المناصب منها مدرس في كلية الآداب بجامعة دمشق للعام 1960
وأستاذ مساعد في كلية الآداب جامعة دمشق 1966.
مدير مدرسة تعليم الأجانب اللغة العربية بجامعة دمشق منذ تأسيسها حتى عام 1965.
وشارك في وضع الأنموذج المقترح لخطة تدريس اللغة العربية وآدابها في الدرجة الجامعية الأولى في الوطن العربي، المركز العربي لبحوث التعليم العلي بدمشق، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1986.
وهو الآن عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق.
وشغل خارج سورية مناصب في غير جامعة، منها مدرس في جامعة الرياض بالسعودية، وأستاذ في الجامعة اللبنانية ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة قطر، والمسؤول الثقافي بالجامعة، وأمين سر مجلس كلية الإنسانيات وعضو الجامعة بقطر للعام 1974 – 1981، وأستاذ زائر في جامعة وهران بالجزائر 1984.
هذا إلى جانب مشاركته في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات المختصة باللغة العربية في دمشق وبيروت والجزائر والكويت وبغداد وقطر والبندقية» إيطاليا».
أما آثاره العلمية فمنها الكتب والمقالات، ومن كتبه:
الزجاجي، حياته وآثاره ومذهبه النحوي.
مجتمع الهمذاني من خلال مقاماته، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق
الرماني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، طبع الجامعة السورية بدمشق
النحو العربي، بحث في نشأة النحو وتاريخ العلة النحوية، طبع المكتبة الحديثة بدمشق.
نظرات وآراء في اللغة وعلومها.
المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني.
أخلاق دمشق هذه سبيلي.
وغيرها كثير من الكتب المحققة من مثل مغني اللبيب لابن هشام، كتاب اللامات للزجاجي، المقتضب لابن جني، أشهر الأمثال للشيخ طاهر الجزائري.
ويضاف إلى ذلك مشاركاته في المؤتمرات والندوات المتخصصة بعلوم اللغة العربية، من مثل» مؤتمر تعريب التعليم العالي بدعوة من جامعة بغداد 1978، والحوار العربي الأوروبي بدعوة من الجامعة العربية البندقية 1977، والكثير غيرها في المراكز الثقافية ومجمع اللغة العربية.
وصيته .. حب العربية
وفي واحدة من توصياته لأبناء جلدته يقول:
« والله أنا أوجه نحو حب العربية، وتنشئة الأولاد على حب العربية، فهي الرابطة إلى التاريخ العربي، وهي الجسر إلى الكتاب الديني، فلا قرآن بلا عربية، ولا فهم للإسلام بلا عربية، ولا اتصال بالعرب إلا عن طريق العربية، ومتى ضاعت، ضاع مستقبل الأبناء..»
ويضيف» أنا لست أسرف في التفاؤل، ولكنني متفائل مع شيء من الحذر، وضرورة البقاء في حالة وعي وفطنة لما يكتب لهذه الأمة وللغتها، ولا أرى داعيا للتشاؤم ولا القنوط، فالأمة في حالة صحوة والحمد لله، والكثيرون يؤمنون أن المستقبل لهذه اللغة.
العدد 1104- 26-7-2022