الملحق الثقافي- شهناز صبحي فاكوش:
يقرأ.. لفتته جملة (جزيرة الأوهام) استل ورقة وقلماً، لديه الكثير الذي يدونه تحت هذا العنوان.. مثل كل الناس.. له.. لأولاده وأحفاده، ومستقبل وطنه الذي لم يغادره.. كان قلمه يكتب بمداد دمه، بعصارة عقله ونفحات قلبه، يمزق أوراقاً، ثم يعود لحروفه الممتدة بين مرونة أعصابه..
يعيش اللحظة.. تغيب مثل ومضة الكهرباء التي ترمش وتختفي.. يعاود اغتراف بعض الجديد الذي تعلمه، ففي كل يوم لابد يضيف جديداً لحصيلة عقله.. ومخزون حياته مهما دنا أو كبر.. يرتشف بعض الماء العذب، عند ابتلاعه يصبح مثل غصة تسعى للمرور من عنق الزجاجة..
قاسٍ على نفسه، لا يود البحث عن أصدقاء جدد، بعد أحبته الذين استشهدوا. واضح كالشمس.. حلمه أن تكون قادمات الأيام مثل صحته التي تفرض ذاتها على الحياة. يحاول استردادها بالأكل الطازج دون هرمونات.. يتناول الدواء في موعده، يمارس رياضة بسيطة.. ينام مبكراً.
مازالت الأيام تفر منه إلى جزيرة الأوهام، يحاول الوصول إليها بيقين قدراته الذهنية.. يهيم في القراءة والكتابة.. والاستيقاظ مع خيوط الشمس الأولى.. والانغماس في مذاهب الطبيعة.. يملأ رئتيه بعطر التراب الندي الموشى بدم رفاق السلاح.. يعلم تماماً أن الأخذ من الحياة مفتاحه العمل والإبداع. يسترجع مخزون عمره حتى لو قاربه النسيان.. من ذهن لا يفارق مكنونه..
هو يحسن جوار نعمه، التي تتجسد آلاءها مع دقات الساعة ودورة عقاربها.. كل يوم يهيم فيه بجزيرته التي يحلم أن تحمل كل ما فقده بفعل الحرب والخيانة، غير مصدق أنها يمكن أن تكون جزيرة الأوهام لا الأحلام.. بدأ يكتب سرديات تاريخه، سويعات الفرح التي مر بها أيام الغضب والاقتحام ضد عدوه.. حصاره ورفاقه، ندب جراحه التي يحملها أوسمة شرف وفخار.
كم وكم من الذكريات سيدوم، مناسبات زيارات. كل ما ممر بحياته بين أهله وأصحابه ورفاق السلاح.. نجاحات أبنائه.. أحفاده.. وكسيرته حين فقد بعضاً من أبنائه.. يستفيق فجأة من مآلات أوهام جزيرة الاغتراب؛ التي مخر عباب بحرها وألقته على شاطئها سفينة الغربة في داخله.
استفاق من شروده على صوت أحد طلابه وهو يناديه بهمس رشيق وصوت عذب، هل لي أن أستشيرك أستاذي، فأغترف قليلاً من خبرتك أصبُّه في جعبة بحثي.. كم كانت تسعده تلك العبارات، كلما سمعها من أحدهم؛ تنتشي روحه.. ويشعر أنه مازال على قيد الانبعاث..
مع بداية مشروع كل طالب من طلبته يشعر بنعمة وجوده في الحياة، نعمة تأخذه وحقائب سفره إلى جزيرة الأحلام.. التي ينتظر على شطآنها عودة بعضٍ من حياة ما قبل الحرب.. ليستحم بضياء القمر ليلاً.. ويشرق من جديد مع ومضات شمس الصباح التالي.. يفتح نافذة غرفته، يشعر أنه يفتح معها آفاق مستقبل يتمنى أن يحمل لحظات سعادة، غير تلك المسروقة من ماضي أيام وطنه الذي ينتمي إليه بصدق.. فهو جزء مهم منه..
يمم وجهه شطر الطبيعة التي تسوِّر داره استشعر مرونة أعصابه التي تزداد حشرية نحو القوة حتى لو كان مازال على كرسيه المتحرك.. كان ينظر إلى مكتبه، والأوراق التي دون عليها كل ما يحب ويكره.. ممسكاً بالورقة الفارغة والقلم هل يخط (جزيرة الأوهام).. عنواناً لكتابه..
ويبقى السؤال أهي حقاً أوهام أم أحلام.. وحقائق.. استفاق من غيبوبته على صوت أحد طلابه يناديه بهمس عذب هل لك أن تمنحني معلومة.. كم كانت تسعده تلك العبارات كلما سمعها تنتشي روحه المتعبة.. ويشعر رغم ما يثقله من هموم، أنه مازال على قيد الانبعاث..
العدد 1104- 26-7-2022