الملحق الثقافي-سلام الفاضل:
الصفر قوي لأنه توءم اللانهاية، وكلاهما متساو ومتعاكس مثل (الين، والينغ). كلاهما متساو في المفارقة والإرباك، فأضخم الأسئلة في العلم والدين تتمحور حول العدم والأبدية، الفراغ والأزل، الصفر واللانهاية. وكانت الخلافات حول الصفر هي المعارك التي هزّت أسس الفلسفة، والعلوم، والرياضيات، والدين؛ فالصفر واللانهاية يكمنان مباشرة في أي ثورة عملية وفكرية.
كان الصفر في قلب المعركة ما بين الشرق والغرب، وفي مركز الصراع ما بين الدين والعلم. إلى أن أصبح الصفر لغة الطبيعة، وأهم أداة في الرياضيات، وأكثر المسائل الأساسية في الفيزياء، واستطاع عبر تاريخه كله، وعلى الرغم من رفضه ونفيه دائماً، هزيمة معارضيه، ولا يمكن للبشرية أن تجبر الصفر على أن يتلاءم مع فلسفاتها؛ بل إن الصفر هو ما شكّل وجهة نظر البشرية للكون، والله، والحياة.
ونظراً لهذه الأهمية التي يتوقف عليها الرقم صفر يأتي الكتاب الإلكتروني الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان (الصفر سيرة فكرة خطيرة)، وهو من تأليف: تشارلز سيف، وترجمة: د. أحمد ديركي، لتسليط الضوء على الصفر كلغز فكري صعب عبر تسجيل حوادثه الرائعة، وحثّ القراء على مرافقة الصفر من هاوية الفراغ ليخرج إلى اتساع الكون اللانهائي، ويروي المؤلف ذلك كله ببراعة وثقة الجدالات التاريخية، حيث يدحرج الصفر بانسياق وصولاً إلى العصر الراهن، كما أنه يصف ببراعة شديدة قصة رائعة عن البشرية، يتناولها بعمق وغنى، إذ يقارب مفاهيم بسيطة مثل الصفر، واللانهاية، وعلاقتهما المذهلة مع الدين والثقافة في الحضارات السابقة، والعلوم الراهنة.
يبدأ المؤلف أولى فصول هذا الكتاب بسرد قصة ولادة الرقم صفر حيث يرى أن قصته قديمة تمتد جذورها إلى فجر الرياضيات منذ آلاف السنين، أي ما قبل الحضارة الأولى، وأنه مفهوم شرقي ولد في منطقة بلاد الشام وبلاد الرافدين قبل ميلاد السيد المسيح. ليتناول لاحقاً ملامح انتقال الصفر إلى القارات والحضارات الأخرى شرقاً وغرباً وكيف استُقبل هناك، ويبيّن أن الصفر هوجم في الغرب الذي لم يستطع تقبله لمدة تجاوزت نحو ٢٠٠٠ عام، ففي الكون اليوناني المتخيل لا يوجد ما يُعرف بالصفر أو العدم، وكانت نتائج هذا الرفض رهيبة، حيث أعاقت نمو الرياضيات، وقيّدت الإبداع العلمي، وأحدثت فوضى في التقويم، مما دفع بالغربيين إلى تحطيم كونهم المتخيل، وقبول الصفر أخيراً. أما الشرق فقد رحب بالصفر والفراغ، ولا سيما الهند التي لم تخشَ منهما، بل احتضنتهما على العكس من نبذ الغرب لهما.
ثم يعرج المؤلف فيما بعد إلى تحوّل الصفر إلى أقوى أداة جديدة ظهرت في عمق العالم العلمي مُسلّطاًً الضوء في ذلك على حساب التفاضل والتكامل الذي بدا مفارقة حينها، وابتكار كلّ من إسحاق نيوتن، وغوتفريد ليبنيز أقوى منهج رياضي ممكن من خلال التقسيم على صفر، وجمع عدد لا محدود من الأصفار مع بعضها البعض. ليصل تالياً إلى الحديث عن الصفر واللانهاية، وعقد مقارنات تظهر مقدار التشابه بينهما ليستنتج أن الصفر واللانهاية هما وجهان لعملة واحدة، وهما عدوان متساويان في القوة عند طرفي نهاية عالم الأرقام؛ حيث تكمن طبيعة الصفر الصعبة في القوى الغريبة للانهاية، ويمكن فهم اللانهاية بدراسة الصفر، ويؤكد أنه كان على علماء الرياضيات لتعلّم ذلك أن يغامروا في عالم خيالي غريب، يجلس فيه كلّ من الصفر واللانهاية في أقطاب متعاكسة.
ثم يعرج للحديث عن الصفر في الفيزياء التي عَبَر إليها من الرياضيات، فبدا عديم الفائدة بالنسبة إلى الفيزيائيين، وأصبح الصفر في الديناميكية الحرارية عائقاً لا يمكن تخطيه، وفي نظرية آينشتاين للنسبية العامة أصبح الثقب الأسود، وفي ميكانيكا الكم الصفر بات مسؤولاً عن مصدر غريب للطاقة، وهو شبح قوة مؤثرة من لا شيء بتاتاً.
وهكذا نرى ما للصفر من أهمية تكرّست في علوم عدة حاول أن يلجها مؤلف الكتاب، وهو يحافظ في الآن نفسه على نغمة جميلة وعميقة تشي بعمق الموضوع الذي يتناوله، ليؤكد عبر كتابه هذا بأن الصفر كان من أكثر الأفكار التي ابتدعتها البشرية خصوبة، وأكثرها خطورة، ويفتح للقرّاء نوافذ واضحة كي يروا التقنيات القوية للعلوم الرياضية، وألغاز الفيزياء الحديثة.
العدد 1104- 26-7-2022