ذاكرة… في البدء كانت الاسطورة.. المعـذَّب الصابـر – أيوب الرافديني

الملحق الثقافي:

مازالت بلاد الرافدين بتراثها الثر الغني تدهش العالم بما خبأته من كنوز ثقافية وفكرية, والمؤرخون الباحثون الذين يقدمون التاريخ بقراءات جديدة يضيفون المزيد من الألق إلى هذه الكنوز الأستاذ الباحث فراس السواح كان قد نشر في الملحق الثقافي بتاريخ 14- اذار 2006م مايلي حول أيوب الرافدي يقول السواح:
وفيما يلي أقدم ترجمة لأوضح سطور هذا النص، وهو معروف بعنوان «الإنسان وإلهه»: ليرفع الإنسان على الدوام كلمات التمجيد لإلهه، وليمدح الشاب في كل وقت كلمات إلهه، ويفضي إليه بصدق عن كل ما يعانيه.
إنني رجل عارف ومتبصر، ولكن الذي يحترمني لا يُفلح.. كلماتي الصادقة تحولت إلى أكاذيب، ورجل الغش والخداع غلبني، وأنا مكره على خدمته.. إن من لا يوقرني قد حط من قدري أمامك يا إلهي، وها أنت تغمرني بالعذاب الدائم المتجدد.
أدخل إلى بيتي مثقل الروح، وأسير في الشوارع مغموم الفؤاد. (مليكي)، راعيَّ الصالح، انقلب ضدي، ونظر إليَّ بعين العداوة، أطلق ضدي قوى الشر، مع أني لست عدواً له.. لم أعد أسمع كلمة صدق من رفاقي، وصحبي يواجهون صدقي بالأكاذيب، ورجل الغش والخداع يحيك المؤامرات ضدي، وأنت يا إلهي لا تردعه ولا تحبط مسعاه.. أنا الحكيم، لماذا أربط مع الأحداث الجهلة؟ وأنا المستبصر العارف لماذا أُحسب بين الحمقى؟ الطعام متوفر للجميع، ولكن طعامي هو الجوع، وفي اليوم الذي قُسِّمت فيه الأرزاق، كان نصيبي هو العذاب.. يا إلهي، إني أقف في حضرتك، أريد أن أتحدث إليك وكلماتي كلها أنين وآهات، أريد أن أشكو لك حالي، وأتحسر على مرارة طريقي.. لعل أمي لا تكف عن النواح أمامك، لعل أختي لا تكف عن شكوى خيبتي أمامك، لعل زوجتي لا تكف عن رثاء عذاباتي، وليترنم المغنون بقدَري البائس التعس.. يا إلهي، إن ضوء النهاء يغمر الأرض، ولكن نهاري أسود.. الدموع والنواح والكرب والغم تسكن فيّ.. يغمرني العذاب وما من شيء أفعله سوى البكاء.. عفريت القدر يقبض عليَّ بيده ويحرمني من نفس الحياة.. وعفريت المرض الخبيث يرتع في جسدي.. يا إلهي أنت أبي الذي أنجبني، فإلى متى تتجاهلني وتحرمني من حمايتك، مثل ثور في .. ..؟ إلى متى تتركني تائهاً بلا هداية؟ لقد نطق حكماء الأيام الغابرة كلمة حق عندما قالوا: «لم يلد لامرأة طفل بلا خطيئة، ومنذ القدم لم يوجد على الأرض امرؤ بلا ذنوب» بعد مقطع كثير الفجوات والتشوهات، ينتقل النص إلى الحديث عن استجابة الإله لصلوات المعذب الصابر، وتخليصه من عذاباته: ذلك الرجل، قد سمع إلهه بكاءه ونحيبه، واسترضت شكاوى ذلك الشاب ومناحاته قلب إلهه.. والكلمات الصادقة والعفوية التي نطق بها، قبلها منه، سرَّت فؤاده فكف عنه يد الشر، أبعد عنه عفريت المرض الذي أحاط به ونشر جناحه عليه، وطرد عفريت القدر الذي أقامه هناك وفق مشيئته، حوَّل عذاب الشاب إلى فرح، وأقام عليه أرواح طيبة لتحرسه وتحميه، فراح الرجل على الدوام ينشد بمجد إلهه.. (بضعة سطور تالفة قبل النهاية) وقد عالج البابليون فكرة المعذَّب الصابر في أكثر من نص، لعل من أهمها النص المعروف بعنوان «لأمتدحن إله الحكمة»؛ وهو موزع على لوحين ويتألف من نحو 120 سطراً أقدم فيما يلي منتخبات منها: لأمتدحن إله الحكمة، الرب المتفكر المتدبر، الذي يمسك بالليل ويطلق النهار.. مردوخ، إله الحكمة المتفكر المتدبر، الذي يمسك بالليل ويطلق النهار.. الذي يلفه الغضب مثل ريح العاصفة، والذي تهب رياحه المنعشة مثل نسائم الصباح.. الذي لا يقاوَم غضبه، وتكتسح ثورته مثل الطوفان المدمر، والذي يتسع قلبه رحمة وصدره مغفرة. [ المقدام الذي لا تقدر السماوات على كبح يديه، والرؤوف الذي تلطف يداه بمن يلفظ الأنفاس (كسر طويل في النص) لقد تخلى عني إلهي واختفى، ولقد هجرتني إلهتي وابتعدت عني، وغادرني الروح الحارس الذي يرافقني.. كرامتي أُهينت ونظراتي الرجولية وهنت.. في كل يوم أذهب إلى العرافين ومفسري الأحلام، ولكن نبوءاتهم بشأني مختلطة ومشوشة.. وعندما أهجع إلى النوم تهاجمني الكوابيس المفزعة.. الملك، شمس الناس وابن الآلهة، ساخط علي، وقلبه لا يمكن تهدئته نحوي.. رأسي المرفوع الفخور، طأطأ نحو الأرض، وقلبي الجسور قد أوهنه الخوف.. بعد أن كنت أخطو بفخر، تعودت الانسلال كمجهول، وبعد أن كنت سيداً محترماً غدوت عبداً ذليلاً، وصرت بين صحبي الكُثر هزءاً وسخرية.. إذا سرت في الطريق أشارت إليَّ الأصابع، وإذا دخلت القصر تغامزت الأعين.. مدينتي تنظر إلي كما تنظر إلى عدو.. أصدقائي صاروا غرباء عني، وصحبي تحولوا إلى أشرار وشياطين، وفي غضبهم أنكروني وتبرؤوا مني.. حتى عبيدي لعنوني في المجالس، والرعاع نالوا من سمعتي.. إذا رآني أحد من معارفي تجنبني وسار إلى الطرف الآخر، وأهل بيتي عاملوني كنكرة وغريب.. لا أحد يقف في صفي ولا أحد يفهمني، وممتلكاتي جرى توزيعها على الأغراب والدهماء.. أغلقوا فوهة نبع قناتي بالطين، وأوقفوا أغاني الحصاد الجذلة في حقولي.. اسكتوا مدينتي وكأنها مدينة مملوكة للعدو، وأعطوا مهماتي وواجباتي لشخص آخر.. في النهار تُسمع آهاتي، وفي الليل يسمع نواحي، فشهري بكاء وسنتي كرب واكتئاب. رفعت دعائي إلى إلهي، فأشاح بوجهه عني، وصليت إلى إلهتي فلم ترفع وجهها إلي.. حار العرافون ولم تفلح نبوءاتهم بشأني، ولم يفهم مفسرو الأحلام، بعد كل ما سكبوه من ماء القرابين، قضيتي، ولم يستطع كاهن التعاويذ، بطقوسه، تهدئة غضب الآلهة عليّ. لقد صرت كمن لم يقدم لإلهه قرباناً، وصرت كمن لم يشكر إلهته عند كل طعام.. مثل من لم يعرف الركوع ولم يعرف السجود قط، ومثل من لم يعرف فمه الضراعة والصلاة، مثل من تناسى الأيام المقدسة، وتجاهل الاحتفالات الدينية، ومثل المهمل الذي لا يؤدي شعائر الآلهة، مثل من لم يُعلِّم شعبه توقير الآلهة وعبادتها، ومثل من أكل طعامه ولم يذكر اسم إلهه، ومثل من ترك إلهته ولم يقدم لها قربان الدقيق.. لقد صرت كمن فقد صوابه ونسي ربه، و صرت كمن حلف قسماً عظماً بإلهه كاذباً.. على الرغم من أني كنت حريصاً على الصلاة في كل وقت، وكان يوم الصلاة عندي مسرة للفؤاد، وكان يوم موكب الآلهة عندي مكسباً ومغنماً، وكانت بركة الملك مسرة وفرحاً عندي.. وبالرغم من أنني علّمت شعبي مراعاة طقوس إلههم، وعلمتهم إجلال وتوقير إلهتهم، ورفعت اسم الملك وعظَّمته مثل إله، وعلّمت شعبي احترام وتوقير القصر الملكي، وكنت أعرف أن هذا كله يسر إله المرء، ولكن ما يبدو للإنسان حسناً، قد يكون في عين إلهه رديئاً، وما يبدو لقلبه مرذولاً قد يكون عند إلهه مقبولاً.
فهل يعرف أحد مشيئة الآلهة في السماء؟ وهل يعرف أحد خطط الآلهة في العالم الأسفل؟ ومتى كان للبشر أن يفهموا طرق الآلهة؟ (واحسرتاه على بني الإنسان) من كان منهم بالأمس حياً، تراه اليوم ميتاً؛ في هذه اللحظة تراه مغموماً وفي اللحظة التالية مرحاً، آناً يغني طرباً، وآناً يُعول كالندابات المحترفات.. في طرفة عين تتغير أحوالهم وتتبدل: إذا جاعوا صاروا كأنهم جثث هامدة، وإذا شبعوا تناسوا إلههم.. في زمن اليسر يتحدثون عن ارتقاء السماء، وفي زمن العسر يتحدثون عن هبوط أرض الفناء.. لقد تأملت في هذا كله، ولم أفهم له معنى.. وهاهي الأمراض الموجعة تسكنني، والرياح الشريرة تهب من الآفاق نحوي. عيناي تنظران بثبات ولكني لا أرى أمامي، وأذناي تصغيان ولكني لا أسمع ما حولي..غلب الضعف على جسدي وهاجمت الأوجاع مفاصلي.. تصلب ذراعاي، وخارت ركبتاي، ونسيت قدماي المشي.. اقترب مني الموت وبان على محياي.. إذا سألني أحد عن صحتي لا أستطيع حتى إجابة سائلي.. حتى لكأن أحبولة طوقت فمي، ومزلاجاً أغلق شفتي.. طعم الخبز في فمي كريه، وطعم البيرة قوت الإنسان مر.. عيناي زائغتان من قلة الطعام، وعظامي تبدو مفككة لا يغطيها سوى الجلد.. لم يستطع كاهن التعازيم تشخيص مرضي، ولم يستطع عرافٌ التنبؤ بكم سيطول مرضي.. إلهي لم يهب لمساعدتي ولم يأخذ بيدي، وإلهتي لم تقف إلى جانبي، ولم تُظهر شفقة علي.. وها جنازتي قد أُعدت، وقبري يناديني، وقبل أن تفارقني الروح.. توقف البكاء علي.. بعد أن يصل يأس الرجل ذروته، تأتيه بشائر الخلاص من خلال عدة أحلام يراها.. ثم يتدخل الإله مردوخ ليعيد إليه صحته وممتلكاته وكرامته: لقد أبعد (مردوخ) الرياح الشريرة التي تهب من الآفاق، وأخذ مني أوجاع الرأس فأودعها في سطح العالم الأسفل، وأرسل سعالي الشديد إلى حيث كان في الآبسو، والعفريت الذي لا يُقهر أعاده إلى إيكور، وأطاح بالعفريتة لاماشتو ودفع بها إلى الجبال، وأرسل القشعريرة والبرداء إلى المياه الجارية وإلى البحر، واجتث جذور الوهن مني مثلما تُجتث الشجرة.. السُهاد والنوم القلق أخذهما بعيداً مثل الغيوم التي تملأ السماء.. رفع حجاب الموت الذي يغطي عيني الغائمتين وشحذ بصري.. أذناي المغلقتان مثل الأصم فتحهما. أنفي الذي اختنقت أنفاسه من الحمى، شفاه ورحت أتنفس بحرية.. لساني المربوط الذي لا يستطيع الكلام، حرره، وصار كلامي واضحاً.. حنجرتي المتورمة التي لا تستطيع بلع الطعام، فتحها وأزال ورمها.. وها أنذا أسير في الشوارع حراً من كل ألم ومرض، وكل من ارتكب خطأ في حق مردوخ فليتعلم مني.. لقد كمم مردوخ فم الأسد الذي كان ينهشني.. وأخذ المقلاع من يد مطاردي ورد حجارته ضده.. لقد أنهضني مردوخ وأخذ بيدي، وضرب اليد التي كانت تؤذيني.. وأسقط سلاح من أشهر سلاحه ضدي.. فمن غير مردوخ يستطيع استعادة المحتضر إلى الحياة؟ ومن غير ساربانيتوم إلهةً تستطيع أن تهب الحياة؟ فما دامت الأرض مبسوطة والسماء مرتفعة، وما دام إله الشمس يسطع وإله النار يلتهب، وما دامت الأنهار تجري والرياح تهب، ليمتدحنَّ بنو الإنسان الإله مردوخ.

العدد 1106 – 9- 8-2022

 

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة