الملحق الثقافي – دلال إبراهيم:
حينما انتشر الفيديو الخاص بـ (غابة الانتحار) ثارت ضجة عارمة في اليابان، حيث يصور الفيديو جثة معلقة على شجرة، أقدم صاحبها على الانتحار قبل ساعات قليلة، في الغابة المعروفة بهذا الاسم. وحقق الفيديو أكثر من 8 ملايين مشاهدة قبل أن تحذفه الشركة. وإثر ذلك زاد عدد الباحثين عن كلمة «انتحار» إلى 14,6 مليون شخص في مختلف مواقع البحث العالمية، الأمر الذي يفسر توق الجمهور للقراءة حول تلك الظاهرة في كل ميدان. وطبعاً بعيداً عن التحليلات النفسية والاجتماعية والدوافع التي تحدو البعض إلى سلب أرواحهم بأيديهم، أي الانتحار، يعتبر الأدب هو أفضل مصدر في فهم دوافع المنتحرين للانتحار، من ناحية، ومن ناحية أخرى، تشكل الأعمال الإبداعية التي تجعل من الظاهرة محوراً لها، مجالاً للبحث والتحليل والتأمل. ونادراً ما نجد أعمال أديب ما تخلو من عمل يتناول ظاهرة الانتحار، سواء أخذت الأعمال الأدبية صورة القصة أو أخذت صورة المسرحية أو اندرجت تحت لواء الأساطير، دائماً ما نجد للانتحار مكانا ما في هذا الأدب أو ذاك. نحتاج هنا إلى صفحات عديدة لاستعراض الحالات والتأويلات التي رآها الأدب في روايته عن الانتحار.
وفي مقال نشرته مجلة «ذي ويك» الأميركية تحدثت كاتبته الأديبة الأميركية ميشيل مالكوف أن استكشاف الانتحار من خلال الأدب يمنحنا فهماً أفضل ممّا توفره لنا التقارير والدراسات النفسية والعلمية. حيث شكّل الانتحار هاجساً أدبياً منذ عصر الأغريق القدماء، وشهدت القرون اللاحقة أعمالاً كلاسيكية لكثير من الأدباء والشعراء والروائيين الذين جعلوا من الانتحار موضوعاً محورياً في إبداعاتهم، نجد من بينهم الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير في معظم أعماله، وعملاق الرواية الروسية ليو تولستوي في رائعته «آنا كارنينا»، والروائي الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير في روايته «مدام بوفاري». وخلال الفترة القريبة لمعت أسماء كتّاب شباب تناولوا قضية الانتحار، حتى شكّلت أعمالهم مادة خاماً لأعمال سينمائية، على غرار الروائي جي آشر في روايته (ثلاثة عشر سبباً، لماذا؟) وأيضاً الروائي الأميركي ديفيد فوستر والاس صاحب رواية (الكوميديا اللامتناهية) والتي تحكي عن واقعة انتحار غريبة قام بها مخرج أفلام، في أسلوب شائق يكتشف القارىء في النهاية أن الرواية تستنسخ وفاة المخرج، وتحاول تطبيق منهجية انتحاره على القارىء. ولكن وللغرابة الفظيعة: أقدم الكاتب نفسه على الانتحار شنقاً عام 2008. وعناوين طويلة نجدها ضمن قائمة أطول لأعمال اختارت الانتحار حبكة لأحداثها، حتى بدأ الحديث على لسان بعض النقاد عن إمكانية استعادة ظاهرة «تأثير فيرتر»؛ بطل رواية الكاتب الألماني غوتة (آلام فيرتر) الذي بلغ الأمر بالمنتحرين ممن اختاروا تقليده، ارتداء ذات الملابس التي انتحر بها فيرتر (معطف أزرق وسروال أصفر)، ما دفع دولاً كالنمسا والنرويج والدنمارك إلى منع تداول الرواية. وربما كان الأدباء أكثر الأشخاص تأثراً بالموضوع، واختلفت درجاته من فرد لآخر؛ بين من أبقاه مجرد موضوع يثار في الأعمال الأدبية، ومن تسلل من كتاباته، وأصبح هاجساً له، وخلاصاً من عالم لم يعد قادراً على تحمله. وهذا ما فطن إليه الشاعر لورد بايرون، حين قال متحدثا عن نفسه وأقرانه من الشعراء: «نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين؛ فجميعنا تصيبنا نوبات الحبور الزائد والكآبة المفرطة». أو كما يرى فرانز كافكا «أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت» خيار الانتحار هذا كان في نظر الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو ليس حلاً مناسباً، لأنه ينفي المشكلة بدلاً من حلها، معتبراً أن الحل المناسب يكمن في مقدرة الإنسان على إيجاد فن يعكس حالته الإنسانية. وهذا ما أكد عليه الشاعر أمل دنقل في تعليقه على ديوانه (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أنه كان نوعاً من الهروب من الانتحار إلى أحضان الشعر. وهو أيضاً ما عبر عنه الروائي الأميركي أرنست همنغواي والذي مات منتحراً ببندقية الصيد حينما قال «ليست الكتابة بالأمر الصعب. كل ما عليك فعله هو أن تجلس إلى الآلة الكاتبة وتبدأ في النزيف» والسؤال: كيف ينظر الأديب إلى الانتحار: فهل هو فعل مباح أم لا ؟ وهل يعد الانتحار عملاً أخلاقياً أم هو فعل مضاد للطبيعة الانسانية ؟ وهل يمكن تبرير الانتحار، بمعنى هل هناك ظروف معينة إذا مر بها الإنسان يمكن تبرير الانتحار عقلانياً؟ لنبدأ من هوميروس، الشاعر اليوناني من عصور ما قبل الميلاد، وكانت من أهم أعماله الالياذة والأوديسة. وقد عرض هوميروس موقفه من الانتحار فى مؤلفه الأوديسة حيث يروي رحلة أوديسيوس إلى العالم السفلى. ففي هذه الرحلة يقابل أوديسيوس «جاكستا».
وجاكستا وفق ما تروى الأسطورة قد تزوجت أوديب وهي لا تعلم أنه ابنها، وأنجبت منه أربعة أطفال .. ونتيجة لاكتشافها هذا الأمر المفزع قررت جاكستا الانتحار . هنا يتعامل هوميروس مع الانتحار كفعل مقبول يصدر نتيجة موقف كارثي، لايمكن للمرء أن يتحمله، فصدمة اكتشاف هذه الحقيقة بالنسبة لجاكستا كان بمثابة النهاية التي لا يمكن أن يتلوها أي استمرارية وجودية .. فالانتحار هنا فعل مقبول وليس موضع استهجان اجتماعي، بل هو على العكس من ذلك أمر مرحب به. وبالانتقال إلى الشاعر الإيطالي دانتي صاحب «الكوميديا الألهية». يرى دانتي أن الانتحار هو عنف موجه نحو الذات. هو إبادة ذاتية تنطوي على ضعف حب الإنسان لذاته أولاً .. ثم ثانياً هو يدمر ما خلق الله.
في ضوء ذلك رفض دانتي الانتحار، وذلك لأنه من ناحية يبيد الموجود الإنساني، ومن ناحية ثانية يدمر الإنسان الذي هو صنيعة الله .لهذا كان جزاء الشخص الذى يقدم على إنهاء حياته أن يكابد الويلات والعذابات في الجحيم.
ومن الواضح أن أساس رفض دانتي للانتحار واعتباره فعلاً مرفوضاً، إنما يستند إلى منطلقات دينية مصدرها الكنيسة التي كانت تشكل تعاليمها في تلك الفترة القوة المحركة للشعور الفكري الغربي.
وبالنسبة للأديب الروسي دوستويفسكي البارع في الغوص في أعماق النفس البشرية واستكشاف أغوارها بأدوات المحلل النفسي ثمة رابط بين الانتحار والخلود والإرادة. ويرى أن من لا يؤمن بالحياة بعد الموت، لا يستطيع أن يفهم وجوده الأرضي على النحو الصحيح، وهذا يقوده إلى اللامبالاه الأخلاقية. فالقول إن كل شيء سيموت فكل شيء مباح. وما دام كل شيء مباح، فإنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له، فيستطيع أن يقتل نفسه أو يقتل غيره.ويربط دستويفسكي بين الحرية والانتحار فيرى أن الحرية هي صفة خاصة بالإنسان وهي ما يجعل الإنسان يشعر بإنسانيته.
في ضوء ذلك اعتقد دستويفسكي أنه إذا لم يتوازن إحساس الإنسان بحريته مع اعتقاده بخلود النفس، فإنه قد يرتكب أشياء مجنونة، لكي يثبت لنفسه أنه حر. مثال ذلك «كريلوف» في رواية «مذكرات في العالم السفلي» انتحر لكي يثبت أنه حر ويستطيع أن يتصرف وفق إرادته الخاصة. فيقول كريلوف بطل دستوفسكي في هذه الرواية: إذا كان الله موجوداً فإنه سيحول دون انتحاره، ولن يستطيع كريلوف أن ينهي وجوده بذاته. ولكن إذا نجح في قتل نفسه، فإنه يستطيع أن يفعل ضد إرادة الله، ويكون هو نفسه إلهاً. ولمّا لم يكن هناك أحد من قبل قد انتحر بهذا الدافع فيكون لكريلوف إذاً السبق في الانتحار، لكي يثبت لنفسه أنه لا يعمل وفق الإرادة الإلهية, وإنما يعمل وفق إرادته هو الخاصة.
وفي رواية «الاخوة كارامازوف «يقدم دستويفسكي «ميردكوف» نموذجاً للشخص الذى يعتقد في أنه لا يوجد شيء بعد الموت. يرى دستويفسكي في توصيفه لحال بطله هذا إن عدم الاعتقاد بالحياة بعد الموت من الممكن أن يقود الشخص نحو حالة من اللامبالاة واللامسؤولية، ويفرغ الحياة من محتواها القيمي. وهو بالتاكيد نمط من الضعف يتوارى خلفه إخفاق المرء في إدراك الحكمة الدفينة من وراء وجوده، وعدم قدرته استيعاب فكرة أن هناك عالماً ما وراء عالمنا الأرضي .. وإن الحياة هنا ليست هي الخطة النهائية للوجود الإنساني.
من المفجع حقاً أن نقرأ عن شخصيات تشعر بهذا الحد من اليأس العميق، إلا أن القراءة تمنحنا استنارة كافية لفهم ميول الآخرين نحو الانتحار، حين يتلاشى كل أفق أمامهم ولا يبقى سوى الانتحار, وهي توفر نظرة ثاقبة في عقول أولئك الذين يتعاملون مع هذه الظاهرة. ولكن لا غنى عن العلم.
العدد 1108 – 23- 8-2022