الملحق الثقافي:
ما العلاقة التي تجمع بين الإبداع الروائي والسياسة، ولماذا تحول الروائيون إلى الموضوع السياسي، هل لأن السياسة غدت الخبز اليومي والمحرك الأساس لكل ما يجري؟
أسئلة كثيرة يجب البحث في مضمونها، والعثور على إجابات تقدم ولو معلومات بسيطة، واليوم تنشغل الرواية في الموضوع السياسي الأميركي كون واشنطن تدير ولو قهراً القرار العالمي، الكاتب الدكتور علي محمد سليمان كان قد طرح السؤال بمقال تحت عنوان : السياسة في الرواية الاميركية الجديدة، نشر في الملحق الثقافي بتاريخ 9/9/ 2008م واليوم يجد القارىء أن الرؤية النقدية الاستباقة قد قدمت الكثير من الإجابات من خلال الرواية الأميركية نفسها.
يقول الكاتب :ظهر مؤخراً اهتمام ملحوظ بعلاقة السياسة بالأدب في الحياة الأميركية عبر عن نفسه في بعض الدراسات التي بدأت تطرح أسئلة قديمة جديدة.
يتساءل الناقد كريستوفر لهمان في هذا السياق: كيف يمكن للأدب أن يتجاهل أسئلة كبرى لعصرنا السياسي؟ أسئلة مثل التي تثيرها الحرب على العراق أو مغامرة الولايات المتحدة في رحلة غامضة لدفع الشرق الأوسط بالقوة إلى حالة من التجدد الذاتي. ويضيف لهمان في تساؤل آخر لا يخلو من إحساس ساخر: إن أحد الخصائص المميزة للحياة السياسية المعاصرة في الولايات المتحدة تتجلى في أن الثقة بالقوة الذاتية لدى الأميركيين تنعكس نتائجها على العالم الخارجي في شكل كوارث وانهيارات في تلك المجتمعات والثقافات التي يحاول الأميركيون اختبار صورتهم الذاتية فيها.. إن هذه العلاقة بين الأميركيين والعالم الخارجي تشكل مفارقة تجعل من الثقافات والمجتمعات مرآة يرى فيها الأميركيون لا ما يريدونه من قوة وتماسك، بل إن هذه المرآة تعكس صورة مغايرة للمخيلة الجمعية وهي صورة تضخم التشوهات والخلل في الثقافة السياسية وفي الهوية القومية.. إنها باختصار صورة قاتمة ملطخة بالدم والجثث والحروب الفاشلة.
والسؤال الذي يطرحه لهمان هو كيف لا تشكل هذه المفارقة التراجيدية بين الوعي والمخيلة الجمعية من جهة وبين الواقع من جهة أخرى موضوعاً روائياً، وكيف تبقى هذه المفارقة الجوهرية هامشية في التعبير الأدبي بشكل عام؟! وفي الحقيقة لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق الثقافية التي تخص المجتمع الأميركي عند تحليل ظاهرة غياب السياسي في الأدب المعاصر.. لقد لعبت الصحافة الأميركية دوراً هاماً في التعبير عن الحدث السياسي وتوثيقه وفي التعبير عن المخيلة الجمعية والثقافة السياسية. ولقد تزايد هذا الدور في عصر ثورة الاتصالات إلى أن وصل إلى حد شكل فيه بديلاً اصطناعياً للأدب، وربما كانت هذه الحالة ظاهرة خاصة بالمجتمع الأميركي.. لكن لغة الصحافة، الآلية الفورية والتزامنية لوسائل الاتصال الحديثة جعل الصحافة السياسية تصبح بالتدريج أقل قدرة على التأمل والتحليل وعكس الخصائص العميقة في الشخصية القومية وجعلها أيضاً أقل كفاءة في التعبير عن التغيرات التي لحقت بالمخيلة الجمعية وبالثقافة السياسية.. وبين غياب السياسي في الأدب وحضوره في الصحافة استعاد الأميركيون مرة أخرى نموذجاً أوروبياً للرواية السياسية، وهي رواية البريطاني جورج أورويل الشهيرة «1984».
إن في استعادة هذا النموذج دلالات تتجاوز حاجة الأميركيين الدائمة إلى مرجعية خارجية عندما يتعلق الأمر بنظرية الأدب والبحث في تطور الأنواع الأدبية.. وتكمن الدلالة الأهم في استعادة رواية جورج أورويل في أنها تعبير معاصر عن الحاجة إلى وجود تعبيرات أدبية تقارب الموضوع السياسي.. لم تعد هذه الرواية في القراءات الجديدة في أميركا تعبيراً عن وضعية الإنسان المسحوق من قبل الدولة الشمولية المتجسدة في النموذج الستاليني فقط، بل تعبير عن آليات قمع وشمولية مختلفة ومعاصرة أنتجها النموذج الأميركي في القرن الحادي والعشرين.. إن النهاية التاريخية للنموذج الستاليني حرر رواية أورويل من مرجعيتها الأيديولوجية والتاريخية التي ألصقت بها من قبل الثقافة الغربية وأكسبها فضاءات دلالية جديدة يمكن من خلالها مقاربة الواقع الأميركي المعاصر.. ووفق القراءات الأميركية المعاصرة لرواية «1984» يواجه بطل الرواية مأزق الإنسان أمام عنف وشمولية قوانين السوق، غربته أمام عولمة الثقافة وأمام العمل المنظم من قبل إمبراطوريات جديدة لمحو الذاكرة التاريخية.. هذه بعض المواضيع السياسية الإشكالية التي تغيب عن الأدب الأميركي المعاصر والتي يحاول الأميركيون مقاربتها أدبياً من خلال استعادة و إعادة قراءة لنماذج أدبية من القرن الماضي.. ولكن بالتأكيد ليس غياب السياسي في الأدب الأميركي غياباً مطلقاً، بل هو حضور هامشي لا يشكل ظاهرة أو تياراً في الكتابة الروائية خصوصاً.. ويعبر هذا الحضور للسياسي في الأدب الأميركي المعاصر عن نفسه في كتابات روائية متفرقة تنضوي تحت ما يعرف في الولايات المتحدة بأدب التهكم السياسي.
في هذا السياق يمكن ذكر بعض أعمال كريستوفر بوكلي كنموذج للحساسية الأدبية في مقاربة الموضوع السياسي.. في روايته «1994» التي تحاكي عبر عنوانها نموذج جورج أورويل، يصور بوكلي بعض جوانب تجربته ككاتب خطابات للرئيس الأميركي جورج بوش ويقدم في روايته حبكة يختلط فيها التخيلي بالوثائقي والواقعي بالتهكمي لرسم صورة لعبثية خطاب بوش وتناقضاته فيما يخص السياسة الداخلية.. وتتخذ الرواية من موضوع تأييد أصحاب صناعة التبغ لجورج بوش مادة لرسم ملامح تهكمية لشخصية الرئيس الأميركي.. أما في روايته الأخيرة «فلورنس الجزيرة العربية» فإن أسلوبيته الروائية تقارب الموضوع السياسي بشكل أكثر عمقاً و أكثر ارتباطاً بالعالم الخارجي وبآثار السياسة الأميركية على هذا العالم.. في هذه الرواية يتسم التهكم السياسي بإحساس فجائعي ومؤلم أكثر مما يتسم بالتهكم الكوميدي.. وتقدم الرواية حكاية شخصية اسمها فلورنس فارفالتي وهو مبعوث أجنبي يعمل بشكل سري على تنظيم تمرد شعبي ضد سلطات مملكة تدعى واسابيا التي يحكمها المتطرفون والإرهابيون. وخلال رحلة فارفالتي هذا يتحول كل شيء في طريقه إلى رموز وصور تمثل مفردات وشخصيات السياسة العالمية المعاصرة في محاكاة تهكمية يصل من خلالها فارفالتي إلى نتيجة مفادها أن السياسة إنما هي مجرد رياضة بشعة تبعث على الملل و تسبب التشوهات.. قد لا تقدم هذه الأعمال رؤية بديلة للثقافة السياسية السائدة، لكنها تعبر عن جانب هام في الحياة الثقافية الأميركية وهو الإحساس بالتململ والرفض لصورة الذات التقليدية التي تمثل القوة والتماسك.. وربما تعبر هذه الأعمال أيضاً عن حالة اغتراب عن الثقافة السائدة لأنها تكتفي بالتضخيم التهكمي لمفارقات ومشاكل الحياة السياسية الأميركية ولا تستطيع إنتاج صورة بديلة عن الذات تغاير الصورة القديمة التي أصبحت بالنسبة للكثيرين غير واقعية ومجرد وهم تجاوزه العصر.. ولعل الإقبال الكبير على قراءة هذه الأعمال يعبر عن حاجة عميقة وملحة في الثقافة الأميركية للبحث عن صورة واقعية للذات.
العدد 1108 – 23- 8-2022