الثورة – حسين صقر:
كلنا يعلم بأن الأمراض النفسية أكثر من أن تعد أو تحصى، وبعضها غير مصنف على جدول تلك الأمراض، لأن المصابين به قلائل، وبالتالي فهو مرض غير شائع، هذا من جهة، ومن جهة ثانية إذا تمعنا في أعراضه وسلوك المريض، نرى للوهلة الأولى أنه أمر بسيط، لكن في حقيقة الأمر، يكون ذلك على غاية من الأهمية ومن الضروري التوقف عند سلوك المصاب.
وخداع الذات إحدى تلك الأمراض التي قد يكون الغالبية العظمى من الناس مصابون بها، ولكن لا يشعرون بذلك، لأن هذا المصطلح يعني توهم الإنسان لمعرفة ذاته، وعدم تقديره الصحيح لإمكاناته، فتراه إما معجباً إلى حد الغرور، أو خائفاً إلى درجة انعدام الثقة، وبالتالي جهل كامل لحقيقة نفسه وظروفه على نحو يخالف الواقع الذي يعيش فيه.
من هؤلاء من يتوهمون أنفسهم بأن أي مكان يوجدون فيه سوف يكونون الأوائل، وبمجرد أول اختبار يتبين بأنهم ليسوا إلا فقاعات صابون، ومنهم من لا يجد بنفسه الكفاءة، ولكن في الوقت الذي يوضعون فيه بمكان، أو يكلفون بمهمة تراهم ينجحون فيها على أكمل وجه، لدرجة يفاجئون بها غيرهم، ما يدعو للقول عنهم بأن هؤلاء من هواة العمل بصمت، دون إحداث ضجيج وصخب.
مرضى هذه الحالة، لا يختارون ذلك بأنفسهم، لأنهم مرضى حقاً ولكن بدرجات متفاوتة، منهم من يسهل علاجه، ومنهم من يقضون حياتهم بعيدين عن الأضواء، وعكسهم لا يدع أمراً إلا ويحاول التقرب منه، كي يظهر فيه، لأن الفرد بطبيعة الحال لا يتعمّد ذلك، بل إنه يقوم بخداع نفسه دون وعي بذلك كأن تكون إمكاناته العقلية والعلمية ضعيفة، ويرى هو عكس ذلك، والعكس بالعكس.
وفي هذا السياق تقول رهف الهزاع الاختصاصية النفسية والمهتمة بالأمراض السلوكية وتشخيصها: إن خداع النفس هو عملية يقوم بها الشخص من أجل رفض الأدلة والحجج المنطقية على ما يدور حوله، موضحة أن الأمر لا يتعلق بإمكاناته وحسب، بل يتعلق بإمكانات الآخرين وظروفهم، وأحياناً يتعلق بحقيقة حياتية ما، كأن تبقى إحداهن تنتظر ابنها المفقود أو الشهيد طيلة عمرها، مع أن الأدلة كثيرة على عدم عودته، ولا سيما إذا لم تر جثته بأم عينها، وهناك من الأزواج أو الزوجات لا يصدقون أنهم يتعرضون للخيانة من الطرف الآخر، وذلك خوفاً على تدمير حياتهم الزوجية، وهناك من الآباء من لا يصدق أن ابنه أو ابنته صدر عنها هذا الفعل أو ذاك، وذلك لشدة ثقته به أو بها، وبعض الأصدقاء لا يصدقون ما يُقال عن أقرانهم نتيجة حبهم الكبير لهم.
وأضافت الهزاع ينطوي خداع النفس على إقناع الشخص نفسَه بوجود حقيقة أو عدم وجودها، حتى لا يكشف المرء عن أي معرفة ذاتية بالخداع، وبالتالي فخداع الذات ليس إلا فعل كذب على النفس، لأن المصاب يكذب أولاً على نفسه قبل غيره، ونلاحظ في الكثير من الأوقات هذا السلوك المحير لدى الآخرين، أي الحالات التي يعتقد فيها الناس على ما يبدو أن الشيء الذي يجب معرفته أمر خاطئ، وهذا السلوك الإنساني لا يشمل المبالغة أو التزييف أو الكذب البسيط، فتلك هي الحالات التي يكون فيها الفرد مدركاً جيداً لما يحصل ولكن يكذب نفسه أولاً، ولهذا فإن خداع الذات هو شيء أعمق وأكثر تعقيداً ومتناقضاً مع الواقع.
وشرحت الاختصاصية النفسية أنه كلما زاد تحليل المرء لمثل هذه الحالات، ظهر مفهوم خداع الذات أكثر تعقيداً، حيث يتطلب شرحها الاعتراف بالجزء اللاواعي من العقل، لأنه فقط في عمليات اللاوعي يمكن أن يؤثر الصراع العاطفي فعلياً على سلوك الفرد ومع ذلك يتعذر الوصول إليه، وعلى المستوى الواعي فالحقيقة حول منطقة المشكلة الخاصة بالفرد غير متوفرة أو على الأقل غامضة غير أن اللاوعي يعرف الحقيقة، وضربت مثالاً كأن يكون أحدهم كارهاً لأحد نتيجة موقف، ويظهر ذلك في أفعاله أمام العوام، ولا يعترف بذلك، وكذلك إذا لم يرد تصديق الأذية منه حتى لو أقنعه العالم كله بها، فهو يستمر بعلاقته مع ذلك الشخص على أكمل وجه.
وختمت الهزاع بأنه لإخراج هؤلاء الأشخاص من حالتهم تلك، الاستمرار بمواجهتهم بالحقائق، فإذا كانوا خائفين لا بد من تقوية ثقتهم بنفسهم، وإذا كانوا مندفعين لا بد من توعيتهم ونصحهم، وإذا كانوا غير مقتنعين بما يدور حولهم، لا بد من سوق الحقائق تلو الأخرى لتعريفهم بالأمر وعدم مسايرتهم بذلك، موضحة أن معظم علاجات الأمراض النفسية تقوم على قاعدة الضد.