الملحق الثقافي- لينــا كيـــلاني :
لكل مرحلة من الزمن ثقافتها التي تتأثر بمعطيات عصرها، وها هي الثقافة العربية تتأثر بشكل واضح بما أصبح العصر عليه من موجة غربية تكتسحه، وتغذيها ما تتيحه شبكة المعلومات من تبادل للثقافات، وتواصل فيما بينها.. إلا أن مأزقاً حقيقياً قد وقعت به الثقافة العربية عندما ألقت رداءها الحقيقي لتتدثر بآخر ليس من نسيجها.. فلو أننا أنشأنا بنكاً للتراث العربي على سبيل المثال لخرجنا من دائرة مَنْ أصبح يتحكم بتراث البشرية في وقتنا الحاضر، وهو ليس نحن.. ولو تساءلنا ماذا سنقدم للأجيال القادمة لتؤسس عليه بناءً صلباً يعبِّر عن هويتنا التي تكاد تذوب في بحر الثقافات الأخرى لوجدنا أن علينا ألا نكتفي بالوقوف في موقع المتفرج من العالم وهو يسبقنا بخطوات واسعة.. فلماذا إذن لا نعقد المعاهدات مع الدول المتقدمة للاستفادة من التكنولوجيا المعاصرة كمحركات البحث العملاقة على شبكة المعلومات فتكون لنا الحرية الكاملة في وضع ما نشاء عليها، وما نريد من تراثنا دون تدخل، أو سيادة علينا؟
إن تراثنا الذي عبث به الغرب عبر الاستشراق، والاستعراب، والترجمة أحياناً يجب إعادته إلى أصله، والدلائل أكثر من أن تحصى فابن رشد مثلاً قد سلبوه حقه في أن يكون المعلم الثاني بعد (أرسطو)، وهكذا الأمر مع كثير من النظريات العلمية التي نسبها الغرب إليه، وحتى من خلال تحقيق المخطوطات العربية، أو ترجمتها فقد أبرز الغرب اسم المحقق، أو المترجم على حساب اسم صاحب المخطوط، والمثل واضح عندما نذكر اسم (فيتزجيرالد) الذي عُرف أكثر من (عمر الخيام) عندما ترجم الرباعيات. وعلى هذا أرى أنه علينا وضع الأمور في نصابها من جديد، وتصحيح ما قام به الاستشراق من حرف للمسارات.. ونحن ما نزال منبهرين بما هو عليه الغرب اليوم كما لو أننا نسينا إرثنا الحضاري الذي كان لبنة الأساس لكثير من العلوم والفكر، والآداب في العالم.
ومن جهة أخرى فالعولمة تكاد تلتهمنا بعد انزياح بعض المفاهيم لتحل محلها أخرى هي من الغربية أقرب منها إلى ثقافتنا.. وها هي هويتنا الثقافية تكاد تغرق في بحر العولمة الهائج.. إذ إن العرب عموماً لم يفلحوا في نقل ثقافتهم المعاصرة إلى اللغات الأخرى، واكتفوا بكمٍ كبيرٍ من المترجمات عن الغرب ليكونوا في موقع المتلقي لا المؤثّر، وهم لا يكتفون بتقبل ثقافة الآخر فقط بل إنهم يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتنقها بعضهم، ويتأثر بها شبابهم، وأطفالهم، ودون أن يطالبوا بأن يتقبل الآخر ثقافتهم رغم أن هذا الآخر قد سرق منهم إرثهم العلمي، والثقافي.
وقد أسوق مثلاً هو الأخوين (غريم) وقد خلدتهم ثقافات الشعوب، بعد الترجمة من الألمانية إلى لغات العالم الأخرى، وذاع صيتهم لدى الأطفال في كل الدنيا بعد أن رسخت قصصهم في الذواكر.. وهي ليست القصص بحد ذاتها وإنما ما استُلهم منها من التراث الألماني ليخرج في إطارٍ قصصي استطاع إحياء تراث الأمة الأدبي واللغوي بعد أن أصبح في متناول يد كل الشعوب.. وهذا يدفعني للتساؤل: كم من مبدع عربي قدّم إنتاجاً مميزاً على ساحة الأدب ولم يفز بتخليد اسمه لدى العالم على غرار الإخوة (غريم)؟ أم إن صندوق كنوزنا قد ظلَّ مقفلاً ليقع في مياه محيط مضطرب ولا سبيل لإنقاذه؟
إن توفير أرضية أو أساس اقتصادي متين إلى جانب توفير مراكز لانطلاق الإبداع، والتطوير هما عنصران أساسيان في استقطاب العقول وإيقاف هجرتها.. فلو أجرى أحدهم بحثاً علمياً في فرع ما من فروع العلم، أو الثقافة فلابد أن تكون هناك جهة مهتمة بهذا الفرع لتتبنى بحثه، على أن تكون عربية شمولية، وليست محلية إقليمية ضيقة لأن هذا يخلق نوعاً من المنازعات بين الباحثين.
ونحن على الطرف الآخر، على الأقل في القرن الماضي حتى الآن، لم نخلق رموزاً للأمة ماعدا الذين خلقوا أنفسهم عن طريق قيادة بلدانهم، وتسخير الإعلام لخدمتهم. أما الرموز القائمة حالياً فعلى الأغلب أنها كُرست من خلال انتماءات سياسية، أو غيرها، فمن الأجدر بنا إعادة التقييم والنظر، والفرز، والتصحيح قبل اعتماد الرموز كرموز. والفرز مهم جداً في هذا السياق كأن يكون أحد الرموز كبيراً في مجاله دون غيره من المجالات فلا تكفي شهادة دكتوراه فخرية لتجعل منه مثقفاً مثلاً، أو أكاديمياً، بل يجب أن يظل في سياقه فهذا قائد سياسي، والآخر حربي، ولكلٍ مجاله الخاص به، والذي يتجلى تأثيره من خلاله.. فاختيارنا لرموز للأمة هو اختيارنا لوجهنا الحضاري، وتثبيت لثقافتنا، ولهويتنا القومية.
ثم لماذا لا يكون هناك صندوق أو بنك للإبداع العربي يرتبط بوحدة قياس للرأي العام العربي يقوم بالدراسات التي تتغلغل بين الجماهير لتفرز المبدع، أو تصل إليه؟ فالذي يعوم على السطح عموماً ليس هو المبدع الحقيقي، كما أن الأمر يحتاج إلى مراكز استطلاع، وحركة نقدية تفوق الإبداعية بل تسبقها، وتكشف عنها..
وعلى منهجية وحدة قياس الرأى العام العربي هذه ألا تستبعد أي قسم، أو شريحة من الشرائح الاجتماعية، والعمرية حتى يكون هذا الرأي العام قد تشكل من حقائق على الأرض وليس بالاكتفاء بنماذج من شريحة معينة لأن الإبداع هو ملك الجماهير كلها فهو يؤثر فيها كما يتأثر بها. وبهذا تتشكل وحدة عامة هي طابع لشعب، أو لأمة، حتى ولو كان ذلك في الفن، فمثلاً لا يُذكر الزنوج في أمكنة ما في العالم إلا وتذكر معهم موسيقا الجاز، ولا يذكر مستوى الجامعات وأهميتها إلا وتذكر أميركا، حالياً، وسابقاً بريطانيا، كما أن الدأب على العمل، وتقديسه، والالتزام بالنظام إنما من صفات شعوب آسيوية بعينها هي اليابان، والصين، وهكذا. ولهذا فعلينا اعتماد الطرق العلمية في استطلاعات الرأي لا العينات التي لا تعبّر عن المجتمع كله.
والأمر ذاته يكاد ينسحب على مشروع للثقافة لا يعتبر العائمين على الساحة الآن، أو ذوي البريق الزائف أنهم المبدعون، بل نقرر نحن من هم المبدعون حقاً، إذ يمكن أن يكون لدينا مئة شاعر ونكتفي بالاعتراف ضمناً، أو اختيار خمسة منهم فقط.
وفيما يخص الأطفال العرب بما أن الطفولة مرحلة قصيرة، وشائكة، ومهمة جداً في عمر الإنسان، وهي التي تبني شخصيته في المستقبل فإن الاهتمام بها من خلال بنوك للطفولة هو على درجة من الأهمية إذ له فروع متعددة تقع بين العلم والتعليم، والعلم هو ما يؤخذ من خارج الكتب أما التعليم فهو في المدارس، والمعرفة عموماً لها قنوات كثيرة في شبكة الاتصالات حالياً.
إن تنمية الشخصية الطفلية إنما تكون من حيث إشراكه فيما يدور حوله من أحداث حتى الكوارث الطبيعية، والأمراض والاوبئة، وأخذ رأيه باحترام سواء في البيت مع الأسرة، أو في المجتمع، أو في المدرسة، وعبر وسائل الإعلام، أو بلقاء المختصين في كل مجال، سواء أكانوا مسؤولين، أم غير مسؤولين.
أما الفنون فبابها عريض جداً ويعمل على تنيمة الذوق الجمالي، وله عدة فروع أيضاً من مسرح، وغناء، وشعر، وموسيقا، وقصص، وربما ألعاب تسلية، وممارسات في مدن الملاهي أو النوادي، وللرياضة كذلك دور.
وحول الكتاب فإنني أرى أنه ليس المهم هو الكتب بل ممارسة القراءة، والاطلاع، والتركيز على إيصال هذه الكتب إلى الجماهير من خلال قنوات متعددة، إضافة إلى جعلها متوافرة ككتب إلكترونية، وتخفيض سعر الكتاب على أهميته. أما معارض الكتب فيجب أن يعاد النظر فيها لا أن يُعرض في أروقتها ما هب ودب بل المميز من الكتب، بشمولية لجميع البلاد العربية لأن المعرض ليس تجارياً، ولا ربحياً فقط بل هو مشروع ثقافي صميمي.
وتحدثني يا محدّثي بعد كل هذا عن تحديات.. وأنا أراها مآزق لا تحديات.
العدد 1112 – 20- 9-2022