الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
لم يكن فان كوخ الفنان الأول ولن يكون الأخير الذي صبغ ألوانه بدمه، معاناته، بمآسيه، اغترف من دم قلبه ليرسم وليقول كلمته الإبداعية، فهل كان هذا حماقة أم جنوناً، أم مرضاً نفسياً لا أحد يعرف عوامله، وقد جاء التفسير فيما بعد مع تطور العلم والطب؟.
أسئلة كثيرة يفتحها الحديث عن هذا الفنان الذي لقي حتفه بعملية مبارزة أشبه بالانتحار، ومن ينتحر هل هو سوي ؟
لن نذهب في التحليل فلهذا أهله وأصحابه، والعلم كل يوم يرفدنا بجديد، ولكن من رسائل فان كوخ التي صدرت في باريس منذ أكثر من اثنتي عشر سنة يمكن أن نجد الكثير من الإجابات على السؤال المطروح : أكان الأمر حماقات أم مساً من الجنون؟
(دع العالم الأكاديمي والأمجاد واختر الوحدة والتواضع )
هذا ماكان ينصح به فان كوخ صديقه الرسام فان رابار وكان يكرر تلك النصيحة في رسائله المدهشة التي تبادلها معه بين الأعوام 1881 و 1885.
هذه الرسائل أخرجها فانسان غوغ في كتاب صدرفي باريس ولاقى اهتماماً كبيراً، ما دعا الكاتب والناقد فيليب سولير أن يعرض له في مجلة نوفيل أوبسرفاتور قائلاً: انظروا اللوحة التي رسمها فان كوخ لنفسه في كانون الثاني عام 1889، حيث نرى فيها رأساً مضمداً على أذن مقطوعة وغليون في الفم وعلى رأسه قبعة من الفرو.
راقبوا تلك النظرة، فأعمى من لا يلمح فيها كيف يحتفي فان كوخ بنصره الكبير على العالم وعلى نفسه بالذات، حيث أراد أن يجسد نتيجة مشاجرة بينه وبين غوغان الذي قطع أذن رفيقه بضربة سيف… هذه الحادثة كان لها أبعادها وأثارت مشاعر الكثيرين كتلك التي يكنها الكاتب الذي نحن بصدده أي فانسان فان غوغ.
اللوحة الشهيرة رسمت على خلفية حمراء لتعبر لزمن، ونظراً لفانتازيا عصرنا فقد يستطيع المرء أن يتصور إمكانية التعديل في هذه اللوحة، كأن نقوم مثلاً بإزالة الغليون ونضع له أذناً كاملة، وألا ننسى أن هذا الفنان المشهود له ذهب بنفسه ليعطي أذنه المقطوعة وهي لا تزال لحماً طازجاً إلى بائعة هوى في مكان عملها وهو جريح… وفي هذا الصدد يقول كلوديل: العين تسمع والأذن ترى، وهذا ما قاله فان كوخ بنفسه قبل أن يقضي ميتاً بعد مبارزة بالمسدسات ذهب ضحيتها وكانت شبه انتحار جماعي، وكما رأى الناقد الكبير آرتو فإن قصة الأذن المقطوعة تشكل (منطقاً مباشراً)، لكن هذا المنطق لا يراه المشاهد الغافل بل يتطلب شخصاً متقد الذهن ليتأمل اللوحات، لأن الغافلين غالباً هم مصابون بالصمم، فهم لا يرون شيئاً بل يدّعون الفهم، وإذا عدنا لحياة فان غوغ عام 1881 وكان عمره حينذاك 28 عاماً وتربطه صداقة مع رسام محلي في هولندا يدعى فان رابار كتب له عدة رسائل ليقنعه بالاستقالة من الأكاديمية وأن يطلق لنفسه العنان وأن يبقى قريباً من الحقيقة في الأوساط الشعبية، كما دعاه أن يكون حذراً من النساء ذوات القلب المتحجر والنمامات، وأن يذهب بكل تواضع ومحبة نحو العشيقة الوفية الوحيدة.
المراسلات كانت مثيرة للاهتمام بين الفنانين رغم الصعوبات في ذلك الزمن، والمراسلة المهمة والتي أثارت الاهتمام أيضاً تلك التي تبادلها مع تيو، ومما جاء فيها: (إن رجال الدين يقولون إننا مخطئون ونحن ثمرة للخطيئة، وما أراه أن هذا الكلام عبارة عن حماقات اكتست ثوب القداسة).
لكن هذه الحماقة هي وحش قد يقودنا إلى الوهن والإذعان كما يقول فانسان صاحب الكتاب، وما العلاج في هذه الحالة؟ بكل بساطة هو أن نحب ما نحبه (الإنسان الذي لا يهتم كثيراً بالحب يخسر من ذاته)، وبكل بساطة إن لم تحب فأنت قررت السقوط، ونستطيع القول: إن هناك نوعين من الموت الأول بطيء وهو موت أكاديمي أما الثاني فنحن نذهب إليه بأن نقوم مثلاً بشنق أنفسنا بواسطة عقدة محكمة الربط… هناك قصص شيقة تنتظر من يكتبها عن نزاعات الفنانين، من هذه القصص ماجرى بين غوغ وغوغان وبين الرسام مونيه وصديقه سيزان أيضاً بين بيكاسو وبراغ، ويرى فان غوغ أنه عندما يتحول الفنانون إلى باعة سيصلون إلى هذا النزاع، يقول في رسالته:
(أفّضل قضاء وقتي في الطبيعة، وأن أذوب بها على أن أقضيه في حسابات الأسعار، التجار الأغنياء هم أناس ماهرون شرفاء أوفياء، أما نحن بسطاء نرسم في الأرياف والشوارع أو المراسم، وأحياناً تحت الشمس الحارقة أو تحت الثلج، نحن تنقصنا لباقتهم والحس العملي لديهم ولباقات حسن التصرف»، ثم يضيف في رسالة أخرى: ماسيبقى مني هو القليل من شعر قاس كزهرة برية حقيقية.
وكتب مرة لصديقه فينس يقول: في زمن الانحطاط الذي نعيشه لامجال فيه للزخرفة، من الأفضل أن نبحث عن علاقات حميمة مع أصدقائنا القدامى وأن نتجاهل الحاضر.
ويتابع الكاتب فانسان بحثه في رسائل فان غوغ قائلاً: لم يكن لدى فان غوغ أدنى رغبة لعرض ذاته بل كان يفضل أن تجري الأمور دون ضجة، حتى وصل إلى مرحلة دون علاقات مع الفنانين ليقارن نفسه بـ روبنسون الذي عاش وحيداً في جزيرة نائية، يقول: «يحاول الفنانون مابوسعهم للوصول إلى الشهرة وهذا لايعني لي شيئاً». وفي رسالة له إلى تيو يتحدث عن امرأة تدعى سيان من بائعات الهوى يقول: ليس لديها ما هو غير عادي، هي امرأة بسيطة من عامة الشعب، من يحب امرأة عادية تبادله الحب فهو رجل سعيد رغم الوجه المظلم للحياة، وعن الطفل الذي أنجبته له يقول: إنه رائع تحسبه شعاعاً هبط من الأعلى فوق منزلي».
وهنا يقول فانسان: ليس فان غوغ من ينعت باللاإنساني أو المجنون بل المجتمع هو كذلك، ويتابع الكاتب: مع أنه لم يعد الاهتمام كبيراً بفن فان غوغ لكن مازالت لوحاته تباع بأسعار مرتفعة جداً ولا أنسى تعليقاً لهاوية أميركية رأيتها في معرض فرانكفورت كانت تقلب كتابي عن بيكاسو فقالت: لقد أصبح بيكاسو موضة قديمة وهكذا هو العالم كبت وجهل، وفي الوقت نفسه سوق للشراء وتقديس وإعادة اعتبار وامتلاك للأشياء، أما فانسان فقد أحب قراءة ديكنز ولم يكن يعرف سوى بودلير وفكر كثيراً بزولا وهو يدرك قلة معرفته في عالم الرسم، كذلك كان بلزاك لايفقه شيئاً بالرسم لذا كان علينا أن ننتظر عام 1947 ليأتي ناقد مثل انطونين آرتو ويؤلف كتاباً حمل عنوان:«فان غوغ: انتحار المجتمع» يضع النقاط على الحروف ضد القسوة البرجوازية والخبث السام، ويرى في رسم فان غوغ قوة انعطاف تاريخية وناظماً لعاصفة متوقفة.
فان غوغ ضد مجتمع الجريمة المنظمة، المجتمع الذي رأيناه في القرن العشرين بوجوه متعددة مزيفه ولايزال قائماً حتى اليوم.
العدد 1117 – 25- 10-2022