حادثة صغيرة أثارت اهتمامي بل ربما غيظي، أو غضبي، أو حفيظتي سموها ما شئتم، ذلك عندما أخبرتني صديقة ليست على علاقة وثيقة مع استخدام الرقمية، ولا الآلة الإلكترونية، وليست كذلك على دراية بمنافذها الخبيثة قبل البريئة والتي يتسلل منها اللصوص، والقراصنة.. أقول عندما أخبرتني بشيء من النشوة أن رسالة عاطفية وصلت إليها من رقم مجهول عبر إحدى التطبيقات الشائعة التي يستخدمها أغلبنا في أغلب الأوقات.. وهذه الرسالة التي لم تكتم فضولها بالاطلاع عليها لم تكتفِ بالعبارات الرقيقة بل جاءت مرفقة بأغنية عاطفية أيضاً تهز المشاعر، وتصل إلى الوجدان.. وصديقتي الحالمة هذه، والبريق في عينيها، تتساءل: مَنْ عساه يكون هذا المتيم بها؟ هل تعرفه؟ أم أنه عاشق مجهول لم يستطع إلا أن يبثها ما يختلج في صدره؟.. لتقع تساؤلاتها في سمعي وقع الانفجار.. انفجار داخلي بالطبع سببه غيظ مكتوم، وسؤال محموم لم أعبّر عنهما إلا ببعض التلميحات، والتعليقات، والتنبيهات، وربما التوجيهات.. لأقفل باب هذا الحديث معها وأفتح في ذهني باباً آخر للسؤال: كيف يمكن لفرد يعيش في القرن الحادي والعشرين، ويتفاخر بامتلاكه لتقنياته الذكية مجسدة بهاتف نقّال، أو حاسوب متطور غالي الثمن خفيف الوزن، وهو لم يعقد لنفسه صلة معقولة إن لم نقل متينة مع وسائل الرقمية تلك والتي أصبحت نافذته على العالم بفضاءاتها المتعددة؟! وأتعجب أيضاً من أن من الجامعيين ومن حملة الشهادات العليا، ومن المثقفين حتى مَنْ لا يعرفون كيف يتعاملون مع وسائط التكنولوجيا بشكل صحيح في عصر أصبح كل ما فيه مرهوناً لها، وممهوراً بها.
وصديقتي لم تدرك أنها إنما تفقد هاتفها الثمين لقاء لهفتها لمعرفة لغز الرسالة، ولم يرد على خاطرها أن ذلك العاشق الذي لم يفصح عن هويته إنما هو قرصان إلكتروني أوقعها في فخ قد لا تعرف كيف تخرج منه.
وأمثال هذه الصديقة من هؤلاء الذين يستخدمون الوسائط الذكية لماذا لم يسعفهم ذكاؤهم لأن يسألوا عن أصول التعامل مع هذه الوسائط قبل أن تقع في أيديهم، أو عن التقنية التي أنجبتها، وكيف عليهم حمايتها، أو عن المبادئ الأولية لهذه التقنيات في استخداماتها إن لم نقل كيفية الاستخدام الأمثل لها، ولو من باب الاطلاع، أو الفضول، أو لمجرد العلم بالشيء؟.
هذه الحادثة ذكرتني بأخرى مشابهة رصدتها منذ أول بزوغٍ لفجر (الموبايل) في بلادنا في تسعينيات القرن الماضي، وكنت آنذاك في مقهى شعبي في منطقة الحسين في القاهرة، وعلى الطاولة المقابلة لي جلس قروي بلباس شعبي كان قد اشترى موبايلاً، وفرح به بدليل أنه كان يخرجه من جيب جلبابه كل بضع دقائق لينظر في شاشته، ثم يجري مكالمة هاتفية تجعل كل مَنْ في المقهى يلتفتون إلى مصدر الصوت العالي الذي يصل إلى أسماعهم، والرجل مزهو بنفسه، وبفوزه بهذا الجهاز العجيب الذي لم يمتلكه بعد سوى ثلة من الناس، بينما هو لا يفقه من أمر جهازه هذا أكثر من أن يضغط على بعض أزراره للاتصال، أو لاستقبال مكالمة واردة.
وإذا كنتُ لا أعتب على ذلك الرجل البسيط الذي لم ينل ربما قسطاً من التعليم، في أنه لم يتواصل مع الآلة التكنولوجية الحديثة من خلال فكره وإنما فقط تواصل معها عبر أصابعه فإنني أعتب على صديقتي التي تحمل الشهادة الجامعية العليا كيف قبلت أن تقع تحت سطوة التقنية الحديثة دون أن تحدثها نفسها أن تعلم عنها ولو النذر اليسير لتعرف إلى أين تسير بها، أو أنها هي إلى أين تسير؟ وأنا لا أطالبها أن تكون دارسة للتقنيات، وإنما أعتب على فضولها أنه لم يتحرض ليسعفها ببحث متواضع عن استخدامات هذه الأجهزة ببرامجها، وتطبيقاتها وبما لها من إيجابيات يمكنها الاستفادة منها في حدها الأقصى، وما عليها من سلبيات، ومخاطر، وسقطات يمكنها أن تتسبب لها بخسائر ربما تكون فادحة.
وصديقتي لم تعرف حتى اللحظة أن هناك من يخترق كل حوائط الحماية للوصول إلى الغاية، وهي البيانات الشخصية المدونة عبر جهاز محمول، وببساطة متناهية، ولعلها لم تسمع أيضاً من قبل عن أولئك المخترقين (الهاكرز) ليس بالكلمة الأجنبية بل بترجمتها العربية.
وإذا كنا لا نعرف كيف نحمي أجهزتنا الذكية من الاختراق فكيف لنا أن نحمي عقولنا من أن تخترقها الرقمية بقدراتها الفائقة، والمتفوقة؟ بل كيف سنحمي هذه العقول من فيروسات المعاصَرة المتمثلة في الاستلاب الفكري، والغزو الثقافي، ومحو الهوية الوطنية، وتهديم اللغة بإفسادها بما يدخل عليها من مفردات غريبة وهجينة؟.
* * *