الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
قد يبدو نافلاً القول: إنّ الثقافة أكثر منها حاجة للإنسان؛ فهي ضرورة حياتيّة ونفسيّة ووجوديّة؛ وهي فرض عين على كلّ شخص، ولا يعني هذا أنّ على الجميع أن يكونوا موهوبين، قادرين على الكتابة أو الرسم، أو العزف والتلحين، أو الغناء… إذ إنّ هذا مستحيل؛ ولكلّ قدراته وميوله وتحصيله، ولكنّ العمل في الثقافة، لا يتوقّف على الموهبة وأصحابها؛ فهناك من يديرون العمليّة الثقافيّة في القطاع الرسميّ؛ وظيفة ومهمّة ومسؤوليّة؛ وحبّذا أن يكونوا من المهجوسين بالثقافة؛ وآخرون يقومون بهذا خارج العمل العام؛ وليتهم شغوفون بالثقافة، وهناك من يعملون في الثقافة، وينجزون فيها لأغراض أخرى؛ منها الربح، ومنها الشهرة، وأخطرها ما يجعل من الثقافة وسيلة لتمرير غايات قاتمة، وأهداف شيطانيّة! وهذا يتناقض مع المفهوم الإيجابيّ الإنسانيّ للثقافة.
وغنيّ عن التأكيد، أنّ العمل الثقافيّ لا يُنجز بالنوايا الحسنة، ولا بالرغبات النبيلة، ولا بالمواهب الأصيلة فحسب؛ فلا بدّ من حيّز وأدوات وكوادر (من خارج الاهتمام الثقافيّ؛ ربّما) تعمل، وتعلن، وتدعو، وتشرف، وتوجّه، وتخطّط… ولهذا كلّه متطلّبات وإمكانيّات وأكلاف، تتصاعد، وتتفاقم؛ فمن الذي سيوافرها؟! وليس خافياً أنّ من يدفع، سيكون له رأي؛ حين يريد؛ إن لم نقل: سيفرض أفكاره ووسائله وعامليه ومنطقه و(موهوبيه) ومشروعاته؛ وقد لا يكون على دراية كافية بذلك!
وإذا كان تمويل الأعمال الثقافيّة في المؤسّسات العامّة، يأتي من الموازنة العامّة للدولة؛ وهذا ما يجعل المنجز الثقافيّ يخدم التوجّهات الرسميّة، أو على الأقلّ لا يتعارض معها؛ فماذا عن القطاعات الأخرى؟!
لا شكّ في أنّ الحال المثاليّة، أن يوجد من يدفع خالصاً لوجه الثقافة، من دون أن يهتمّ بما يعود إليه من مكاسب مادّيّة، ويغبط، وينتشي للأصداء المعنويّة، والتأثيرات الإيجابيّة، التي بثّها العمل الثقافيّ المنجز من تمويله؛ وأمثال هؤلاء موجودون، لكنّ السؤال عن نسبتهم وتأثيرهم؛ وهم من يعوّل عليهم حقّاً في نتاج ثقافيّ مهمّ؛ سواء أكانت لديهم اهتمامات واشتغالات ثقافيّة؛ ومن الطبيعيّ هنا أن يكون لأصواتهم أو نبراتهم أو اهتماماتهم حضور في الأعمال، التي ينجزونها؛ أو لا علاقة مباشرة لهم بالثقافة، ولديهم القدرة على الدعم المتنوّع؛ وهم من الذين عندهم الإيمان بأهمّيّة الثقافة ودورها في بناء الإنسان والأجيال والمجتمعات والحضارات؛ وهم؛ لحرصهم، وأَثَرتهم، وأريحيّتهم، يتركون الأمر لأصحاب الأمر؛ من الموهوبين، وذوي الاختصاص؛ لينجزوا المطلوب والمرجوّ؛ أمّا من يهتمّون بما سيحصّلون من أرباح ونفوذ وهيمنة؛ فسيتدخّلون في نوعيّة العمل، وفي حيثيّاته، وسيختارون من يؤمّن لهم هذا، وما يؤمّنه، ويدفعون لمن يؤلّف، وينفّذ، ويسوّق، ويراقبون (السوق)، ويهتمّون بالرائج، والمرغوب، أو بما يودّون تعميمه وتزيينه وتسييده في الأذواق والأذهان.
ومن الرعاة والداعمين للثقافة، من يريدون غسل أموالهم، التي جاءت من أعمال قذرة وممارسات شاذّة، وتبييض وجوههم المراقة أمواهها، وتطهير سمعتهم الملطّخة من ارتكابات وموبقات؛ ولعمري، إنّهم يلوّثون نقاء الثقافة، ويعكّرون مواردها، ويشوّهون تاريخها وحاضرها وتوقيعاتها المفترض أن تكون ناصعة.
لقد علّمتنا التجارب المعيشة، أنّ مهرجانات ثقافيّة، يرعاها متطفّل على الثقافة، ستتصدّر صورته الإعلان عن المهرجان، وصور المشاركين، وسيكون لاسمه موقعه المتقدّم إلى جانب رموز الثقافة المشاركين، فيما عين رعاة أدعياء آخرين على مقعد أو موقع خارج الثقافة، وشعبيّة وإعلام ونفوذ، وقد ظهر أنّ بعض الداعمين الثقافيّين لسنوات، كانوا مموّلين للإرهاب والإرهابيّين، أو ممالئين لهم؛ ولم تنجُ المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة من أمثال هؤلاء، الذين كانت لهم، من خلال حراكهم الثقافيّ، مآرب أخرى، وحين لم يحصلوا عليها، انقلبوا على الثقافة وحضاريّتها، وعلى الناس والبلد وثقافته ومقدّراته ونفائسه ورموزه القديمة والمعاصرة، ومنهم من تسلّق أعمدة الثقافة ومنابرها تسوّلاً وتضليلاً وتمويهاً واستغلالاً.
وهناك مسابقات وجوائز وحوافز وألقاب بأسماء، لا علاقة لها بالثقافة، ومسمّيات لا تليق بالثقافة، ولها دعايات وإعلام وضجيج وبهرجة، ولها قيمتها، التي تسيل الأقلام، وتحرّك مؤشّرات الكتابة ودلالاتها، ورياحها؛ مع أنّ لها غاياتها المشكوك في براءتها؛ ولها جمهورها وزبائنها وطالبو ودّها، والراغبون في لآلئها وامتيازاتها؛ فيما تختنق مواهب وتطلّعات، وتحاصر أوراق ولوحات وأصوات، وتكتئب طموحات، وتتعثّر مبادرات في أركان قريبة وبعيدة..
نعم؛ تحتاج الثقافة الحقّة إلى روافع، ورافعين، ومزخّرين، وشاحنين، ومحفّزين، وتحتاج إلى تقدير وتقديم واحترام، وإلى ما يليق بها، وإلى أن تسمو في المجتمع، ويسمو بها؛ لكن من دون امتهان ومساومة وامتطاء وانتقاص، ومن دون اختراق وادّعاء وابتذال.. وهنا يمكن للدولة أن تتصدّى له، ويجب على المؤسّسات العامّة أن تأخذ المبادرة؛ فهي الأقدر والأقلّ أهواء- على الرغم ممّا فيها من منغّصات ومناكفات وإعثارات، وللمثقّفين دور في هذه أيضاً- والأكثر امتلاء وامتلاكاً للوسائل والمنابر والخيارات والاحتمالات، وأذرع البحث عن الموهوبين والمتميّزين، ومنحهم ما يحتاجون إليه؛ كي يبدعوا، ويخرجوا ما لديهم من كنوز، ويمنحوا المجتمع والبلد والإنسانيّة رصيداً غنيّاً مولّداً خالداً.
وبقناعة وشفافيّة وحبّ- مع أنّ من الحبّ ما قتل- أرى أنّ الثقافة أهمّ من أيّ راع لها، وأثمن من أيّ دعم، وأسمى من أيّة نيّة سيّئة، ولا زلت أردّد ذلك المثل عن الحرّة التي تموت من دون أن تأكل بثدييها!
وثمّة ما يقال عن صناعة الإبداع؛ وهو تعبير لا أستسيغه، وأرى فيه إهانة للإبداع وما يمثّل، ومن يمثّل؛ نعم، يقال عن صناعة السينما؛ كما صناعات أخرى تُتداول مسمّياتها، بما يدعو إلى البحث والتساؤل؛ لأنّ النتاج فيها يتطلّب تقنيّات خاصّة سوى الموهبة والإبداع، وأدوات ووسائل مكلفة، وهناك طرق للتنفيذ متعدّدة، ويمكن الاقتصاد فيها، أو الإسراف في الصرف عليها، لمن يستطيع، ولها أحيازها المتواضعة والمترفة، وأجواؤها الهادئة والصاخبة.. وفي تصوّري تأتي الصناعة في مرحلة لاحقة على الإبداع، أو إنّها تستثمر الإبداع أو تستغلّه، في عمل مصوّر ومسوّق؛ أي أنّ هناك إبداعاً منجزاً، يرى بعضٌ أنّ من الممكن صناعة عمل ما عنه؛ أمّا الإبداع ذاته فغير مصنّع؛ وهذا لا ينفي إمكانيّة أن يقع المبدع تحت رغبة صاحب الصناعة أو العمل، فيأتي بعمل يناسبه! وقد يكون عملاً جيّداً، والأرجح ألّا يكون؛ لأنّ الإبداع ذاتيّ الدافع والرغبة والموهبة في غالبيّته.. قد ترسم صورة لشخص بمهارة، لكنّها تفتقر إلى الإبداع؛ لأنّ القصديّة وراءها؛ ونلاحظ أنّنا لا نسمع بصناعة الأدب؛ بل بطباعته، وقد يؤخذ عمل إبداعيّ أدبيّ إلى عمل من طبيعة أخرى، أو فضاء آخر؛ فالصناعة تركيب ومهارة أكثر منها إبداعاً؛ لكنّها توظّف إبداعات الكاتب والمخرج والممثّل وسواهم، وتركّبها لتصنع عملاً، وكم من أعمال مصنوعة شوّهت إبداعات، واستغلّتها، وحطّت من قدر مواهب أبدعت، وأخذت نتاجات مقدّرة اتّجاهات لا تليق؛ قسراً أو جهلاً أو مواءمة للسوق، والجمهور الذي يريد هذا.
لقد طرح موضوع تفرّغ الكاتب أو تفريغه منذ سنوات، ودعا إليه عديدون، وطبّق في بلدان؛ ولست من أنصاره في الإبداع؛ الرواية والقصة والشعر مثلاً؛ لكن يمكن أن يكلّف أديب بمهمّة تدخل في إطار الثقافة: كتابة موسوعة، سيرة، بحث تاريخيّ، توثيقي، تحقيقيّ؛ أمّا أن أقول لأديب: تفرّغ واكتب رواية أو قصصاً، أو اترك الوظيفة وأبدع شعراً.. فمن يضمن ألّا تجدب المخيّلة، وتشحّ الطاقة، أليس للإبداع فصول غير محدّدة، وأوقات غير مسمّاة؟! فقد يعجز الأديب المفرّغ عن إنجاز، وقد يخرج النتاج مصنوعاً، تحت ضغط الوقت والحاجة والحالة، لا مبتدَعاً من معاناة واحتراق وتمثّل! والانخراط في الحياة منبع للحركة والحيويّة والانشغال، وثروة لغويّة وفكرية وثراء شعوريّ تعبيريّ تفعيليّ في كلّ شيء؛ حتّى في ضغطها واشتداد قتامة آفاقها وضبابيّة مشهديّاتها؛ كما للمخيال مدياته وتصوّراته، وللمختبر الذاتيّ الفطريّ والمكتنز تجلّياته وألوانه؛ وهي ليست قيد التحكّم، ورهن الطلب والانتظار.
إنّ حرصي على الثقافة، يجعلني على يقين من أنّها تستحقّ التضحية، تستحقّ المغامرة والمبادرة من قبل من تكتنفهم، وتتمثّلهم، وتمثّل هاجسهم ومنطلقهم وأحيازهم، ومن قبل محبّيها الصادقين، العاملين بها ولها ومن أجلها بجدّ وإرادة وثقة واقتناع.
العدد 1118 – 1-11-2022