الملحق الثقافي- لينا ديوب:
لا يمكن الحديث عن الثقافة دون الدخول في عمق المجتمع، ولا يمكن الحديث عن المجتمع دون الخوض في الظواهر الثقافية، اذ لا معنى للعلاقات الاجتماعية خارج الأنساق الثقافية، ولاشرعية للأنساق الثقافية خارج المعايير الأخلاقية، هذا يعني أنَّ بناء مجتمع حيوي هو بناء كيان قوّامه المجتمع والثقافة والأخلاق، كيان قائم بذاته، له سلطته الاعتبارية التي لا تنفصل عن الشروط التاريخية، ويعني أيضاً ضرورة العمل على تحويل المجتمع من تجمّع للأفراد باعتبارهم أرقاماً، إلى منظومة حاضنة للأفراد باعتبارهم فاعلين اجتماعيين، وصناعاً لواقعهم ولتاريخهم.
هنا يمكن الحديث عن الفرد الحامل لمصير المجتمع، وعلاقته بالظواهرِ الثقافية الحاملة للأفكار الجوهرية والهوية الإبداعية، القادرعلى المبادرة والنقد وكشف الخلل ونقاط الضعف، لإعادة العلاقات الإنسانيةِ الغائبة إلى الحضور في بنية المجتمع وعلاقاته، وهذا لا يتحقق إلا باعتماد الفكر وتفضيله على الواقع كمنظومة وجودية تمنح الفرد دوراً فاعلاً في صنع التاريخ، وإعطاؤه مكانة في البناء.
لأهمية الثقافة تحرص الدول على تشكيل ثقافاتها الوطنية، من خلال البرامج والمشروعات واستراتيجيات التَّنمية الثَّقافية المستدامة، والاهتمام بمفكريها ومثقفيها وتكريمهم، مع سعيها الدائم والجدّي إلى رعاية الثقافة وتخصيص ميزانية لبرامجها وأنشطتها. أي أن الثقافة ليكون لها دورها تحتاج إلى الدولة، والدولة تحتاج إلى الثقافة لتعبّرعن هويتها وتوجهاتها وتعزز وحدتها وانتماء أفرادها.
عليه يكون العمل على تشكيل الثقافة الوطنية هو عمل على بناء الهوية وعلى إنتاج الفكر وعلى خلق الوعي، الوعي بالواقع وعلاقاته وتأثيره على المجتمع وتطوّره أو تراجعه، حيث لا تكون حياة الفرد تسجيلاً لتفاصيل يومياته في الزمان والمكان، وإنّما هو المنهج الذي يمضي حياته به ضمن منظومة ثقافية يشتمل على الأدوات المعرفية، وآليات تحليل سلطة المجتمع على الأحداث اليومية، وطرق تفكيك الأحداث التاريخية، بحيث تستعاد العناصر الفكرية المنسيّة، والعلاقات الإنسانية الغائبة كما تسترجع الأحلام الإنسانية المهمشة، وتنطلق الأصوات المكبوتة داخل الفرد وداخل المجتمع. لتحرير الفعل الاجتماعي من المصلحية الضيقة، هذه تكون الخطوة الأولى لإنتاج المعرفة ومن ثم نشرها بهدف صياغة الوعي لتحرير الذاكرة الإنسانية من الوهم المؤسّس على سياسة الأمر الواقع. وهذه الثقافة الفاعلة، لأن الأنسان عندما تنتعش ذاكرته وتفكيره على أفكار البناء والخير وعن وعي فإن المجتمع سيمتلك القدرة على قراءة نفسه من الداخل، وانتشال أحلام الناس وإنقاذها واتخاذ خطوات للمضي نحو تحقيقها. لكن لتكون الثقافة مؤثرة لابدّ من العمل على اللغة، وعلى تجديد الخطاب اللغوي في تحليله للوقائع التاريخية، وتجديد الخطاب التاريخي في تحليله للرمزية اللغوية.
يقول الفلاسفة:( التاريخُ واللغةُ يُشكِّلان القاعدةَ الحاملةَ للتُّراثِ الثقافي باعتباره وَعْياً مُتَجَدِّداً في كافَّة الحُقول المعرفية، وسُلطةً تأويليةً في صَيرورةِ المَعنى وحركةِ الفرد في الحضارة بِوَصْفِه صانعاً للفِعل الاجتماعي، ومُنْتِجاً لفلسفة العلاقات الاجتماعية في التَّشَظِّيَات الفردية والجماعية داخل مُكَوِّنات المُجتمع الإنساني).
إن حرص الدولة على بناء هوية الإنسان الفاعل، يعني إنفاقها على الثقافة المرتكزة على اللغة والخطاب اللغوي، لبناء طريقة تفكير وتحليل مختلفة، حتى يمتلكها الفرد ويصبح بإمكانه التفاعل مع الحدث اليومي كحقل معرفي، والتفاعل مع المكان كإرادة للحقيقة، لأنه لن يردد السائد من الأفكار عندما يعود إلى أفكاره المكبوتة يدرك الحاجة إلى تطوير أنظمة لغوية قادرة على تحليل كيفية تكوين المفاهيم، وتأويلها ضمن مراكز الفعل الاجتماعي وهوامشه، بهدف إعادة الحيوية والحركة إلى المجتمع، لأن توظيفِها للوصول إلى الحقيقة بهدف تحديد السياقات الاجتماعية التي تحول فيها الوعي بالتاريخ إلى سلطة قائمة بذاتها وفصل البنية الوظيفية في التاريخ عن المصلحة الشخصية في التاريخ، لأن المصلحة قاصرة عن تطوير المجتمع وتفعيل الأفراد وأدوارهم والتي تسبب في ضياع هوياتهم، بينما العمل للمنفعة العامة هو عمل للحفاظ على هوية الفرد وانتمائه وفاعليته.
إن الإنفاق على الثقافة، يجب أن يكون إنفاقاً على الثقافة الفاعلة والتي تكون وظيفتها التشجيع على الظواهر الثقافية التي تبحث عن تأثير سلطة المجتمع في التاريخ واللغة، وتتبع آثار الوعي الإنساني في الأشياء والأفكار، لأن اللغة تمتلك هوية شخصية نابعة مِن قوانين التاريخ المعرفية، وتشكّل طرق تفكير مختلفة وخطاب لغوي يؤثر على تشكيل وعي مختلف.
المجتمع تحييه الظواهر الثقافية التي تنتقده من داخله، الأفراد يمتلكون هويات ويصبحون فاعلين عندما يعيشون تلك الظواهر.
العدد 1119 – 8-11-2022