الثورة _ أديب مخزوم
مرت في الخامس من تشرين الثاني الجاري الذكرى السنوية الثالثة لرحيل الفنان الدكتور علي السرميني، الذي كان أحد المساهمين في تكريس الحداثة التشكيلية، وفي تحويل اللوحة إلى حالة ثقافية وجمالية، وبداية أشير إلى أن ابنته الإعلامية سوزان السرميني تساءلت على صفحتها: عن سبب عدم وجود لوحة لوالدها في معرض رواد الحداثة الاستعادي، الذي أقيم في صالة الشعب، ضمن احتفالية أيام الفن التشكيلي السوري 2022، وهو الذي ساهم في تكريس الحداثة التعبيرية على مدى ستة عقود، ووصل في بعض لوحاته الأخيرة إلى حدود التجريد اللوني.
ولا يمكننا أيضاً تجاهل غياب ميشيل كرشة أبرز أعلام الانطباعية السورية، وغياب لؤي كيالي، ومروان قصاب باشي ورولان خوري وأسعد عرابي وعمر حمدي وغيرهم، كان يمكن عرض صور مكبرة لبعض أعمالهم في حال عدم وجود لوحات أصلية. ولاشك بأن المطالبة بالإحاطة بجميع رواد الحداثة من الأمور التعجيزية، لكن ممكن أن يتم العرض في أكثر من صالة أو في قاعة كبرى.
وفي لوحاته الأخيرة وخاصة المائية (والتي تجاوز عددها ألفي لوحة كما كان يقول لي) تعامل الفنان الراحل علي السرميني، مع ألوانه بمرونة أكبر في معالجة مواضيعه وخاصة الطبيعة، مستعيداً روح المشهد وحركته وإيقاعاته الدالة عليه وذلك لإيجاد بعض الفروقات في تركيب السطوح اللونية والأجواء الشفافة والشاعرية والوصول إلى المزيد من الاختزال والاختصار، إلى الحد الذي يجعل بعض لوحاته تنفتح أحياناً على الأجواء القريبة من التجريد، القادم من تقنية التبقيع اللوني على سطح اللوحة، والتي هي من أبرز تقنيات التلوين المائي الحديث والمعاصر، ومن هنا تأتي الحساسية البصرية في لوحاته التي أنجزها في سنواته الأخيرة، ولقد قال لي خلال زيارتي له في كلية الفنون الجميلة بحلب، حين كان يشغل منصب العميد فيها، أنه سيقدم هذه الأعمال في معارض قادمة، وهي لوحات مختلفة على الصعيدين التشكيلي والتقني عن كل الأعمال التي أنجزها في مراحله السابقة.
هكذا اعتمد على مبدأ الرسم التلقائي والعفوي، من خلال الانحياز نحو الاختصار والتبسيط والاختزال، حيث تلاشت شخوص لوحاته، التي كانت أساسية في معظم لوحاته السابقة، وغابت عن مساحات وحركات وبقع اللون المائي، في ظل الاقتراب أو الابتعاد عن الصياغة التعبيرية، ومن خلال هذا التداخل بين مؤشرات الأشكال المنظورة واللمسات اللونية، كان يصل إلى مساحات متجاورة ومتداخلة، تأتي على هيئة إيقاعية، وتتجه نحو لغة التبسيط، القادر على اختصار العناصر في فضاء اللوحة.
ويمكن القول إن ظهور اللمسات العفوية الأكثر ارتباطاً بحالات الانفعال الوجداني، لم تأتِ إلا نتيجة البحث المستمر والمتواصل، أو نتيجة اختباراته المتتابعة، حيث أظهر مرونة رموزه التعبيرية التلقائية، التي كان يروي من خلالها قصته مع الواقع، وتدل لوحاته الأخيرة على عفوية كبيرة مشحونة بعاطفة نامية وشغف تلقائي، وبمزيد من المحبة والصدق، إذ الأهم بالنسبة له، كان يتمثل في وضوح الإيقاعات اللونية الحاملة خلاصة بحوثه وتشكيلاته المسكونة بدرجات عالية من الحساسية البصرية والروحية، والمشغولة ببقع لونية تتجه أكثر فأكثر نحو الشاعرية البصرية المرهفة والشفافة، حيث اللمسة اللونية المتحررة تعكس شاعرية التفاعل مع حركة النور والضوء، والإيقاعات البصرية الموسيقية القادمة من طريقة صياغة ضربات وحركات اللون العفوي.
وهذا يعني أنه استعاد أجواء مغامرة اللون، ووصل إلى تشكيل تعبيري بلمسات عفوية مستقاة من المشاعر، كل ذلك بلوحات تجمع أجواء التفاؤل بالمستقبل وإيقاع النغم وشاعرية اللون، الذي يعرف كيف يعزف على أوتار المشاعر، ولا بد أن نكتشف بعض أوجه التنوع والنضج الموسيقي في الحوارات اللونية الغنائية، فالحضور اللوني هنا هو حضور موسيقي غنائي قبل أي شيء آخر، كونه كان يسعى لإظهار ضربات الفرشاة المتتابعة والمتجاورة، والتي تقطف إيقاعات روح الشكل، وتبرز التفاعل الوجداني معه بآن واحد، إنها حالة تعبيرية معاصرة تلغي المسافة بين الإحساس والتجسيد الموزع، دون تقليد واقعي على مساحة اللوحة، مع الإبقاء على الحركة المتداخلة في كل الاتجاهات، والتي تعطي لوحاته الدفق اللوني التلقائي وإشارات النغم الموسيقي البصري، وتكسر صفاء المساحات اللونية وتبرزها كإيقاعات غنائية.
هكذا شكلت لوحاته الأخيرة خطوة تصاعدية باتجاه الحركة والإيقاع الموسيقي البصري، الذي يذهب إلى احتمالات الإيجاز والاختصار في تكاوينه التشكيلية، ولقد استعاد من خلال اللون تجليات الذاكرة والإيقاعات الخافتة والمضيئة.
التالي