تحضر سورية ( الدولة والتاريخ والمكانة والدور) بقوة في جميع اللقاءات والاجتماعات الدولية والإقليمية على السواء، فلا يذكر اسمها حتى تنهال التقييمات والمواقف، ويبدأ الحديث عن وضعها الراهن بكل ما تواجه من تحديات وصعوبات كبيرة بعد أكثر من إحدى عشرة سنة من العدوان المعولم والمركب الذي لم يترك أسلوباً مقيتاً إلا واستخدمه، فكان الإرهاب مصاحباً للأكاذيب الإعلامية والسياسية والروايات الكاذبة والتضليل كطريق لكي الوعي الشعبي وإدخال الوهن في نفسية المواطن، إضافة إلى الحصار الاقتصادي عبر الإجراءات القسرية الأحادية الجانب التي تنفذها واشنطن بالقوة الضاغطة خارج إطار الشرعية الدولية.
تحضر سورية وسط هذه الظروف الصعبة كصورة ناصعة لا تؤثر فيها كل تلك الإجراءات العدوانية، فهي نبع الحضارة ورحلة الحرف الأولى ومحور ومنطلق التقدم، ولأنها على تلك الصورة تتعاظم ضدها الهياكل والأنظمة المستحدثة، سارقة الحضارة ومدعية الحداثة والفكر والقيم والمبادىء، فالأنظمة التي أنشأت كياناتها الاستعمارية على القتل والسلب ونهب خيرات الشعوب واستغلال ثرواتها، لا تمتلك عمقاً حضارياً ولا تاريخاً مشرفاً، كما الأمة العربية وغيرها من الحضارات والثقافات القديمة كالصينية والفارسية واليونانية والرومانية، تلك الحضارات التي لم تعرفها شعوب الغرب الأوروبي ولا مجرمو الولايات المتحدة الأميركية بعد وصولهم للعالم الجديد، وهنا نقطة الفصل في جوهر الصراع.
جميع المتحاورين يعترفون بفضل هذا الشرق، وواسطة العقد فيه سورية، في حمل شعلة الحضارة البشرية الأولى ونشرها في اتجاهات الأرض الأربع، وأنها ما زالت قادرة على القيام بهذا الدور بقوة، حتى في ظل الإمكانات المحدودة المتوافرة، وهي بالفعل سارت عليها في العقود الثلاثة الماضية بقوة وثبات، فقد كان الاكتفاء الذاتي حالة معاشة، وتم تجاوزها لمرحلة الفائض والوفرة، في ظل حالة استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي وسط بيئة آمنة احتلت المرتبة الأولى في العالم على مدى سنوات طويلة.
تتعدد الحوارات وتشتد الخلافات ما بين قلة ترى المستقبل القاتم وترى الدمار الذي لا ينتهي، مقابل الأصوات الغالبة التي تعيد صورة وموقف ورؤية العمق السوري منذ أول بداية العدوان، معتمدة التحليل المادي والتاريخي بطريقة منطقية وواقعية، فعلى امتداد التاريخ كانت جيوش الغزاة تجتاح الأراضي السورية فتسيطر على الأرض، لكنها لم تكن أبداً قادرة على اجتياح عزيمة وروح الإنسان فيها، ويدلل على ذلك اندحار الفرس والإغريق والرومان والتتار والمغول والفرنجة وبقاء سورية وشعبها بتعدد مشاربه ومعتقداته، وهذا الأمر محكوم بحتمية التاريخ الراهن، فإن أدرك العالم كله هذه الحقيقة، بدا واضحاً أسباب تعدد أشكال العدوان مع التركيز على مسألة الانتماء والهوية بالنسبة للفرد ومحاولات تهشيم انتمائه وكي وعيه وإدخاله في مرحلة التشكيك بماضيه المشرق وحضارته الإنسانية، وإن ما نراه من أشكال الحرب المركبة إنما يستهدف صمود هذا المواطن الفرد وسلخه عن مجتمعه الذي كان وما زال وسيبقى رافضاً لكل محاولات الاستلاب والغزو السياسي والفكري والثقافي التي تمارس بأبشع الأشكال وبأساليب جهنمية وشيطانية تحركها الأداة الصهيونية.
ومهما تعددت المواقف واختلفت الرؤى، فإن النموذج الذي قدمته سورية في مواجهة الإرهاب المعولم والمركب سيبقى منارةً تضاف لمنارات بدأت في أوغاريت وحرفها ومحراثها حبة قمحها ولن تنتهي في مواجهة جميع أشكال العدوان الإرهابي الدولي، وستبقى تعطي الأمثلة المتتالية في القدرة على الثبات والتجدد والحياة.