الثورة – رشا سلوم:
من المعروف أن الكثير ممن يقرؤون تاريخ الشعوب والأمم يعتمدون في قراءاتهم الاجتماعية على الادب، ولاسيما الروايات التي يكتبها المبدعون ممن عاشوا في تلك الفترة.. ولكن السؤال المطروح: هل يمكن الاعتماد تاريخياً على رواية كتبت بعد أكثر من خمسة قرون؟..
هل يمكن أن تكون وثيقة، وكيف؟..
أسئلة كثيرة يجب طرحها ولاسيما في الأعمال الأدبية التي تناولت خروج العرب من الأندلس، ولاسيما حياة آخر ملوك الطوائف أبي عبد الله الصغير، وهنا علينا أن نشير إلى رائعة آراغون مجنون إلزا، ومارواه في هذا السٍِفْر الأدبي الخالد، كذلك رواية المخطوط القرمزي التي ترجمت إلى اللغة العربية وصدرت بأكثر من عشرين طبعة، ولايمضي عام حتى تُعاد طباعتها من جديد، أو ترجمة أخرى، دار ورد أصدرتها بترجمة المبدع رفت عطفة، يقول المترجم:
هل كان “أبو عبد الله الصغير” -آخر سلاطين الأندلس- خائناً أضاع الأندلس كما يروي لنا التاريخ؟..
لقد حاول الكاتب الإسباني الشهير أنطونيو غالا في هذه الرواية أن يضعنا أمام شخص آخر غير الذي عرفناه وغير الذي وقعت عليه لعنة التاريخ: إنه شخص من لحم ودم يعيش الحياة حلوها ومرّها، شخص يبكي لأنه يعرف أن التاريخ سيضع على كاهله ما لا يد له فيه.
من منّا لا ترن في ذاكرته كلمة أمه حين التفت ليرى غرناطة لآخر مرة باكياً: “ابكِ كالنساء مُلكاً لم تصنه كالرجال”؟.. ومن منّا، وبعد مرور خمسة قرون لا يحسّ بأن لديه -بسبب الأندلس-فردوساً مفقوداً؟.. هذه الرواية هي قصة حياة “أبو عبد الله الصغير” وقد كتبت بقلم أندلسي.
وقد حصلت هذه الرواية على جائزة بلانيتا 1990، وهي من أهم جوائز الرواية في إسبانيا.
وفي قراءة نقدية مهمة عنها نشرتها صحيفة البيان الإماراتية يقول الناقد شاكر نوري عنها:
والرواية برمتها تحمل عنواناً جانبياً وهو يوميات أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس، في حينها قال الكاتب إنني أرغب بكتابة التاريخ من وجهة نظر الخاسرين وليس من وجهة نظر المنتصرين.
وأبو عبد الله الصغير هو أكبر الخاسرين آنذاك.
وقد وضع هذا الكاتب كل طاقته الشعرية في هذه الرواية وهو شاعر قبل أن يكون روائياً، له العديد من المجاميع الشعرية “العدو الحميم” ـ حائز على جائزة أدونايس ـ و “شهادة أندلسية” و” سونيتا ذوبيا”، يُضاف إلى ذلك أنه مسرحي معروف كتب المسرحيات “حقول عدن الخضراء” و “الأيام الطيبة الضائعة”، و “خاتمان من أجل سيدة” و “القيثارات المعلقة على الأشجار” و “لماذا تركضين يا أوليس؟”، ومع روايته الأخرى “الوله التركي” يكون أنطونيو غالا استكمل حلقة التعبير عن علاقته بالشرق والتاريخ العربي.
تدور الرواية حول الفن والقوة، والصراع بينهما وأيهما أقوى، ومن الذي ينتصر؟.. فالكاتب، بفعل انتمائه الأندلسي يبكي خسارة هذا الفردوس الذي كانت فيها الثقافة سيدة الموقف في وجه “الشوفينية الأوروبية” آنذاك لأن الأندلس ببساطة لم يفتحها العرب بقوة السلاح بل بسحر الثقافة.
ولعل المفارقة الكبيرة في هذه الرواية أن الكاتب يؤكد على أن الأمير أبي عبد الله الصغير ينتمي جسداً وروحاً إلى الأندلس؛ إلا أن المعتدين زايدوا عليه بالانتماء إلى هذه الأرض.
هكذا يكتب أنطونيو غالا على لسان أبي عبد الله الصغير في “المخطوط القرمزي» الذي ترجمه إلى العربية رفعت عطفة: “أكتب على الأوراق القرمزية الأخيرة من كل ما كنت أخرجته من أمانة الدولة في الحمراء، ربما كان ذلك دافعاً مناسباً كي لا أكتب أكثر، لست واثقاً -تماماً كما هو الأمر مع كل الأشياء ـ، لكنني أعتقد أنني أتم اليوم الرابعة والستين من عمري.
منذ أن وصلت إلى فاس وحياتي تجري مثل يوم وحيد طويل وممل، ثم إنني لم أعرف قط الساعة التي ولدت فيها بدقة، من هنا لم يستطع الفلكيون أن يحددوا برجي دون خطأ، ـ ربما كان هذا هو المرغوب به بالنسبة إلى ملك ـ” .
هكذا يجسد الكاتب ما يعانيه ملك خسر كل ملكه، وكلنا يتذكر ما قالته له أمه وهو يودّع غرناطة وهي تتلاشى أمام ناظريه “ابكِ كالنساء مُلكاً لم تصنه كالرجال”.
وهنا يطرح الكاتب التساؤلات تلو الأخرى… هل كان أبو عبد الله الصغير آخر سلاطين الأندلس، خائناً أضاع الأندلس كما يروي التاريخ؟.. غالا يقلب التاريخ ليعطي الكلام إلى الخاسرين لأن التاريخ لم يكتبه إلا المنتصرون.
ولعل أهمية هذه الرواية تكمن في أن غالا لم يكن تقليدياً في طرح الشخصية التاريخية التي عادة ما تكون نمطية كما يفهمها التاريخ بل إنه غاص إلى أعماقها وعبَّر عن ما يجول في عقل ملك خسر كل شيء.
يذكرنا الكاتب بعد مرور خمسة قرون بأننا فقدنا فردوساً خيالياً بسبب الأندلس، وهو العارف بكل خباياها. بطبيعة الحال، لا يتبع الكاتب أي تسلسل تاريخي أو ذكر أسماء الأشخاص بكل الدقة التاريخية لأنه أمام حدث روائي ولا يؤلف كتاباً تاريخياً.
وهو يتتبع هذه المذكرات بأسلوب روائي محكم، إنها مذكرات الملك الأخير الذي سلّم غرناطة إلى الملكين الكاثوليكيين في 2 يناير من عام 1492، فأصبح هذا التاريخ حداً فاصلاً لهذا الانكسار المؤلم في التاريخ العربي.
كتب غالا الرواية بضمير المتكلم، فيقول: “أسلافي أشادوا غرناطة وأنا خربتها”، وهو يريد أن يترك هذا المخطوط إلى ولده وابنته قائلاً لهما: “اقرأا جيداً هذه الأوراق
ولكن إذا لم تأخذكما الرغبة فألقيا بها إلى البحر أو النار: فالأمر سيان، أما ما سيكون، فلا نعرف عنه شيئاً. فالعزيز المقتدر سيقول الكلمة التي يريد حين تحين الساعة، إن أي تاريخ ـ لا تنسيا ذلك ـ لا يمكن أن يحكى قبل أن ينتهي، إذاً بدأ الآن دوركما، انتهى دوري”..