الثورة – أحمد صلال – باريس:
بين الثقافة والسياسة تتعدد الآراء وتختلف، والتحولات التي تشهدها المنطقة العربية تنعكس على الثقافة والمفاهيم، وتفتح الباب أمام المأزق الوجودي للمثقف وفهمه لقضية الحرية في المعرفة والعلاقة مع الواقع، وتعد العلاقة بين المثقف والسياسة واحدة من أبرز الإشكالات في حياتنا المعاصرة، وخاصةً المثقف والسياسة منذ الأزل، هل هي علاقة صحية أم عقيمة؟ نخسر أصدقاء وأحبَّة وجمهوراً بسبب الاشتباك بين الحقل الثَّقافي والسِّياسي؟ هل تنتج العلاقة بين المثقَّف والسِّياسي في إثراء الثَّقافي أو تهميشه؟ هذه الأسئلة تطرحها صحيفة الثورة على مجموعة من المبدعين..
“عندما نقول علاقة المثقَّف والسِّياسة منذ “الأزل” هذا يوحي أنَّنا نفترض أنَّ هذه العلاقة تأخذ شكلاً ثابتاً جامداً، والأمر ليس كذلك، حتى مفهومنا للمثقَّف وللسِّياسي هو مفهوم ديناميكي متطور من عصر إلى عصر، والعلاقة بينهما ليست واحدة في الأنظمة الديمقراطية، والأخرى الشُّمولية، يحلو للبعض تصوير المثقَّف على أنَّه يمثل جوهر الخير، والسِّياسي يمثل جوهر الشَّر، وأنا أرى أنَّ هذا التوصيف الذي صاغه بعض المثقَّفين فيه الكثير من النَّرجسية والأنا المتورِّمة، وهو غير بريء كما أراه، ولاسيما أنَّنا نعرف أنَّ بعض المثقَّفين كانوا أداةً لتزيين ما يقوم به السِّياسي، وشكَّلوا القوَّة النَّاعمة له، مع أنَّهم تسلحوا بالمقولة الغوبلزيَّة الشَّهيرة، “كلَّما سمعتُ كلمة مثقَّف، تحسَّستُ مسدَّسي”، أي إنَّهم اخترعوا معركة وهمية، لتضخيم دورهم وأشخاصهم.. يقول الشاعر والقاص والروائي الدكتور موسى رحوم عباس في إجابته على سؤال العلاقة بين المثقف والسياسة منذ الأزل.
ويكمل قائلاً: “علينا أن نميز بين دور السياسي وهو إدارة شؤون الدولة، واستثمار الموارد المتاحة لتأمين حياة مستقرة وآمنة لكل مواطنيه، أي أنه يتعامل مع الواقع، فيما دور المثقف رؤيويٌ مستقبليٌّ يرصد الظَّواهر، يحلِّلها، ويضع نتائجها بين يدي السِّياسي، وليس من الضروريِّ أنْ يحقِّقها فوراً، بل يأخذ بالممكن والأصلح، عندما تكون البوصلة في الاتجاه الصحيح، من المتوقَّع أنَّنا لن ننال الرِّضا من الجميع، وفي الأصل هذا ليس هدفاً واقعياً للمثقَّف، ولا للسِّياسي!”.
موضحاً د. عباس العلاقة بين المثقف والسياسة والجمهور، وعن إشكالية إثراء الثقافي أو تهميشه يرد عباس، مضيفاً: “أرى أنَّ الدَّورين متكاملين، وليسا متضادَّين بالضَّرورة، فالمثقَّف مهموم بدراسة الظَّواهر الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة تحليلاً، ورصداً، وضبطاً لبوصلة الحياة السِّياسية والثَّقافية، والسِّياسي يدبِّر شؤون الحكم، واستثمار الموارد، والأمن الغذائيِّ، والعلاقات الدولية.. إلخ،
وحتى لو انتقل أحدهما إلى حقل الآخر عليه أن يقوم بوظيفته الجديدة، بنزاهة وإخلاص، ولا خشية من تهميش دور المثقف، إلا إذا استمر لعب دور الضحية إلى الأبد!”.
الخسارة والربح
الثقافة والسياسة يشتبكان بالضرورة، وافتراقهما شكليّ، لأنه لا يمكن، لديّ على الأقل، الفصل بينهما.. ترتبط صحّية العلاقة بين الثقافة والسياسة، أو عقمها، بقدرة الكاتب على امتلاك حيز حرية كاف، وهو ما يعني ارتباطهما “الصحة، أو العقم” بالشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية، من حسن حظي، شخصياً، أن حيّز الحرية عندي لا يتعارض “ولا يسمح” لشروط الاجتماع والسياسة والثقافة أن تحدّ من تلك الحرية”، هكذا يعبر الصحافي والشاعر حسام الدين محمد عن وجهة نظره بالعلاقة بين المثقف والسياسية.
ويكمل: الخسارة والربح نسبيّان، فقد تكون خسارة شخص ضمن دائرة معارفك، أو حتى أصدقائك، بسبب اشتباك ضمن الحقل الثقافي- السياسي هي ربح لك، وربح للثقافة والسياسة، وهذا يمكن أن ينطبق، عكساً، على ربح أصدقاء جدد لا تريدهم وقد يكونون عبئاً على ضميرك والقضايا التي تؤمن بها!”.
ويستطرد محمد متسائلاً: هل تنتج العلاقة بين المثقف والسياسي في إثراء الثقافي أو تهميشه، يجيب: يُفترض أن يؤدي العلاقة بين المثقف والسياسي إلى توسيع المدارك والمعارف والرؤية لديناميّات اشتباك المجالين والتعقيدات (أو المزايا) التي تكتنف هذا الاشتباك، أتصوّر أن توطيد العلاقة مع السياسي ضمن إطار توسيع المعارف والرؤى سيسهم في إثراء الثقافيّ، وفي المقابل، فإن اختلالاً جسيماً في التوازن بين الطرفين قد يؤدي لتهميش العامل الثقافي والسياسي معاً.
ترى الروائية شادية الأتاسي أن علاقة المثقف والسياسة منذ الأزل ومنذ بدء الخليقة، جدلية، متأرجحة، قلقة، من الصعب تطويعها، حسب كل زمان ومكان، لكن من هو المثقف؟ قد يكون التعريف الأكاديمي، أنه الشخص الذي يتمتع بقدر كبير من المعرفة ويلعب دوراً في نشر الوعي والفكر.
وتكمل الأتاسي: وفي رأيي المتواضع أنه كائن قلق يسعى إلى فهم العالم من حوله بعمق، ويعتبر أن الثقافة فعل حر المثقف روحها وضميرها وصداها.
وتستطرد: من اليسير أن ننجذب إلى الحديث عن علاقة صحية بين السلطة والمثقف، ونتحدث بإسهاب، وربما بسذاجة عن علاقة تقوم على مبدأ النقد الحر، يكون المثقف فيها شريكاً لا تابعاً، وتصبح العلاقة عقيمة حين يجري إقصاؤه أو استلابه ليصبح بوقاً يبرر للسلطة، يفرغ الثقافة من ضميرها.
وتنهي حديثها قائلةً: أعتقد أن هذا التوتر الحي بين المثقف والسلطة سيبقى متأرجحاً، وتبقى جدليته قائمة، ويبقى السؤال الأهم حاضراً: هل يملك المثقف في بلدنا المتخم بالهموم رفاهية التفكير الحر؟ من طرف آخر ترى الأتاسي أننا نخسر أصدقاء وأحبة وجمهوراً بسبب الاشتباك بين الحقل الثقافي والسياسي، تقول: أتابع باهتمام مثل غيري من السوريين، ضجيج المشهد السوري، على صفحات التواصل الاجتماعي، وأقرأ بدهشة هذا التوغل المرعب في الخطاب الطائفي المقيت، والتسارع غير المنضبط في رواية مئات الحكايات عن تهم التخوين والتشكيك والإقصاء والاختلاف والتشهير، والأخبار المنقولة عن هذا وذاك، والتي تروى حسب الإيديولوجية التي ينتمي إليها فكر كل ناقل للخبر، في مشهد عائم بإنتاج العشرات من نصوص الثرثرة اليومية، القبيحة، العديمة الطعم والرائحة”.
وتكمل الأتاسي: لا أدري إن كان يحق لي أن أصف المشهد السوري اليوم بكوميديا سوداء، أصبحت فيه الشتيمة “ترنداً” تنهال على مهل من كل صوب وحدة، وفقد الأصدقاء يكاد أن يكون مشهداً مكرراً وعادياً لا يحتاج إلا إلى ضغطة بلوك جاهزة.
في رأيّ المتواضع، نحن اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأمس الحاجة إلى كلمة شجاعة، صادقة، وطنية، تصبح فيها الثقافة عنصر إسناد قوياً للسياسة، لن ننجو إلا بذلك، بالكلمات تختصر الأتاسي على إثراء الثقافي أو تهميشه.
الثقافة ابنة الناس
من طرفه المسرحي والروائي ثائر الزعزوع يعبر عن رأيه كالتالي: لا يمكن وصف العلاقة بين المثقف والسياسة بأنها علاقة صحية أو عقيمة، لكنها، برأيي، شر لا بد منها، السياسة تحرك العالم، والثقافة تحاول دائماً أن تفهم ذلك العالم، تشرحه، تحلله، وربما تقدم رؤية مختلفة قد تكون مفيدة للسياسة، والسياسة هي ثقافة أيضاً، في جزء كبير منها.
ويكمل كلامه عن فقد الأصدقاء والأحبة، قائلاً: نعم للأسف هذا صحيح، وهذا حدث معنا خلال سنوات الثورة، خسرنا كثيرين وخسرنا كثيرون أيضاً بسبب تباين مواقفنا، وهنا لا يمكن فصل السياسة عن الثقافة، الثقافة هي ابنة الناس وهي التي تقودهم، والمثقف يخون الناس حين ينحاز للسلطة في وجه الناس، هل تنتج العلاقة بين المثقَّف والسِّياسي في إثراء الثَّقافي أو تهميشه؟ يجيب الزعزوع: هنالك مثقفون كثر شغلوا مناصب سياسية ودبلوماسية، نزار قباني، بابلو نيرودا، فاتيسلاف هاڤل، دومنيك دو فيلبان، وقد طغى جانبهم الثقافي على الجانب السياسي.
المثقف نعم يستطيع أن يؤثر بشكل كبير في السياسي، وقد تؤدي تلك العلاقة إلى خدمة الثقافة في حال كان السياسي مرناً وقابلاً لفكرة التأثر، لكن برأيي السياسي دائماً يقيس الأمور وفق مقياسه الخاص، ولا يقبل المشاركة، لذلك يغيب المثقف ويتم تهميشه، والأفضل أن تظل الثقافة محصنة من الاختلاط بالسياسة، كيلا تتورط في سردية السياسة.
جامع الكرات
السياسة أرض وملعب فسيح، يلعب فيه المثقف والعسكر ورجال الدين، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار نصف القرن الماضي انضمّ المثقفون إلى الجمهور وتركوا الملعب للعسكر، وربّما ارتضوا بدور “جامع الكرات”، والتصفيق للّعبة الحلوة، وبالتزامن، فقد تراجع دور المثقف في الغرب، ومع هيمنة الصراع الحاد بين الغرب الرأسمالي، والشرق الشيوعي، وظهور آلة الرقابة الشرسة “الجدانوفية السوفياتية، والمكارثية الأميركية” خفتت أصوات الثقافة الحرّة، ولم يعد العالم قادراً على إنتاج السياسيين الشعبويين”.
هكذا يرى الشاعر والروائي عيسى الشيخ حسن العلاقة بين المثقف والسياسة، ويكمل قائلاً عن خساراتنا: “والنتيجة المحزنة أنّ دخول المثقّف إلى ملعب السياسة من جديد، بعد سنوات من “التصحّر السياسي” قد أخذ معظم المثقّفين إلى فريق الطائفة، أو الإثنية، أو القبيلة، “قلّما” نعثر على مثقّف شجاع يسمع صوت الجماعة، وتعرّفنا إلى أنواع من “المثقّف الأعور” و”الأعشى” و”الأشوس”، ومن الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى فكّ ارتباط الجماعات القديمة المبنيّة على أساس الحزب والتيار الفكري أو الأدبي.
هل تنتج العلاقة بين المثقَّف والسِّياسي في إثراء الثَّقافي أو تهميشه؟ يجيب حسن: نحتاج وقتا كافيا كي ترسو السفينة، ونصل إلى أمان “الجوع والخوف”، ويقتنع الجميع أنّ سوريّا وطنٌ نهائيٌّ لجميع السوريين، وتعود المدرسة إلى دورها في إنتاج طلاب عِلم لا طلّاب علامات، وتُؤسّس الأحزاب والجماعات السياسية والفكرية وغير ذلك من مؤسّسات المجتمع المدني، تفعّل الحراك السياسي الذي يمنح الثقافة فاعليتها، وتمنحه الثقافة أسرار بلاغتها.