يعدّ النفاق من أكثر الأمراض الاجتماعية خطورة على صحة المجتمع، وسلامته، فهو يبني إنجازات من الوهم، يصنعها المنافقون، لغايات ليس بالضرورة أن تحاكي مصالح الناس، بقدر ما تنفع أصحابها، وذلك بتقديم صورة مغايرة للحقيقة، على أنها الحقيقة ذاتها، ولو دفعهم ذلك لتغيير الوقائع، وقلبها رأساً على عقب فكل همهم رضا المقصود بالمنافقة والذي غالباً تطرب أذنيه لسماع ما يقوله هؤلاء المنافقون ويبني عليه حتى ولو كان يعلم أنهم ينافقون.. والمشكلة إذا كان المقصود بالمنافقة لا يعلم هذه الحقيقة، فيقع فريسة التضليل والكذب، فليس كلّ ما يقوله هؤلاء هو الصواب، وليس كلّ ما يفعلونه هو الحق بعينه.
وأخطر أنواع النفاق، ما صدر عن أشخاص امتهنوا هذا الأمر، وجعلوا له منازل، وممرات، ودهاليز، يجيدون الانسياب عبرها، بحيث يصعب اكتشاف نفاقهم، ومن المنافقين أيضاً نفرٌ ممن يبالغون في مودتهم، وهم يبطنون كل سوء، يحاربون نجاح غيرهم بكل الوسائل، والطرق، ويفتعلون الخلافات بين أفراد المجتمع الآمن، ويقنعون أنفسهم، وغيرهم، بأن ما يفعلونه، هدفه المصلحة العامة، ولا شيء سواها.
هنا تصبح المسألة أكثر تعقيداً حيث تتناسب عملية الإصلاح المجتمعي عكساً مع نمو المنافقين، وكثرتهم وتمددهم، وربما يتحول النفاق إلى حالة مستعصية، ومنها إلى ظاهرة، والأصعب أن يصبح النفاق ثقافة، يبررها جمهور كبير، ويعززها جماعات من الحمقى، ويهاب مواجهتها كثير، ممن آثروا الانكفاء والحياد، ووقفوا متفرجين بانتظار المعجزات.
هنا يحضرني مثل، هل أذكركم به؟ ففي زمن غير بعيد، وذات ليلة باردة، أراد أحد الميسورين، أن يقيم وليمة لأهل قريته، عرفاناً لما رآه منهم، حين عودته من بلاد الاغتراب، فأولم وليمة كبيرة، وطلب من أحد رجاله، أن يدعو الأهالي لتناول لذيذ اللحم والمرق، وخرج المنادي يعلن عن اشتعال النيران في بيت صاحب الدعوة، ويثير نخوة الشباب أن يهبّوا للمساعدة، لإنقاذ الرجل، فلبى الاستغاثة نفرٌ قليلٌ من شبان البلدة وفقرائها.
اندهش صاحب الدعوة لقلة من لبى دعوته للطعام، فسأل المنادي، فأخبره: هؤلاء وحدهم من يستحق التكريم، لأن الباقي منافقون، تركوك تواجه مصيرك، وهم ذاتهم من كانوا بالأمس، يسمعونك طيب الكلام وكثير الثناء.
وتذكر الحكايات أن الظاهر بيبرس سار بجيشه، عبر سيناء مصر، قاصداً الشام، لملاقاة هولاكو، فصادف رجلاً حكيماً في الطريق، فسأله الدعاء بالنصر له وللجيش، لكن الحكيم سأله أن ينظف ديوانه قبل أن يترك البلد، فعاد بيبرس أدراجه ليجد المنافقين انطلقوا يكيدون، ويخططون لاستلام الدولة بعد غياب صاحبها، فأنزل عليهم عقابه، وأعاد ترتيب الديوان بالبطانة الصالحة، وانطلق مرة أخرى للشام مطمئناً، فخاض حربه، ضد جيوش هولاكو، وأيده الله بالنصر المبين.
ما سبق يضعنا أمام ضرورة العمل على كشف المنافقين وتعريتهم، فوجودهم يقود لخراب العمران، وخسارة المعركة مع الحياة، بما تحمله من تناقضات، وازدهار المنافقين في مفاصل البلاد، سوسٌ ينخر بنيانها القوي، واعتقد أن خير الصداقات في صدق الأقوال والأفعال، فالصديق من صدق، وليس من صدّق، والناجح من سمع أقوال الصادقين وبحث عنهم وقّربهم من حياته ومجلسه.
الناجح من قدّم مصالح الناس على مصلحته، وزرع الخير لنفسه وأهله ومجتمعه.. وهو بهذا يكسب محبة الناس ورضاهم، ويحصد الخير، والنجاح والتميز، عكس المنافق، فما أشبه المنافق بالغراب الذي أراد أن يكون نسراً، فلا هو نجح أن يكون ذلك النسر، ولا عرف كيف يعود لأصله غراباً!.
بشار الحجلي