يرتعش قلمي، كما ترتعش روحي وأنا أكتب في ذكرى الرحيل.. رحيل ياسمينة دمشق الأديبة (قمر كيلاني) التي نثرت دروب الحياة فكراً، وألقاً، وعاطفة، وحباً.. ودمشق المدينة الخالدة استأثرت بذلك الحب فما غاب ذكرها عن نبض الكلمات.
أنظر إلى صورتها المعلقة فوق الجدار فأجدها تبتسم لي بابتسامة غامضة، وأنظر إلى العينين فأجد فيهما سؤالاً.. لعلها تسألني عن الأحوال، وعن البلاد، والعباد.. فأقول لها لا تسأليني عن شيء فأنتِ قد عرفتِ أزماتنا التي تطرأ علينا في هذه البقعة من الأرض، وما غابت عنك بدليل أنك كرّستِ لها في أغلب ما كتبته من قصص، وروايات، من فلسطين الجريحة إلى بغداد الحزينة.. وتتبدل الملامح تحت ناظري وكأنها تقول لي لا تحزني، و دعي الأمل يتفتح ليصبح حقيقة، وتذكري دوماً أن الكلمة هي خلود بقدر ما هي مسؤولية.
إلا أن الرحيل بأي معنى كان فهو يجرحنا، ويؤلمنا، سواء أكان للأحبة، أم للأصدقاء، أم للرحيل عن الأمكنة التي عشنا أو ولدنا فيها، أو عن الأوطان.. وبينما الذكرى ترف في قلبي وأنا أكتب عن أمي، وما عدت أعدّ عدد سنوات الفراق، يفاجئني خبر رحيل رجل فكرٍ، وعلمٍ هو الأديب والشاعر اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح.. فتنال مني الغصة وكأن الأيام تتشابه بينما الذكريات تعود لتنبض فتأخذني إلى زيارتي لصنعاء البيضاء، وكانت قد طليت بيوتها، وأزقتها، وشوارعها باللون الأبيض لتغدو كحمامة سلام تحمل بمنقارها غصن تراثٍ مقطوف من شجرة نبتت في أرض الحضارة العربية يوم كانت صنعاء عاصمة للثقافة عام 2004، لأتعرف عن قرب أكثر إلى هذه القامة الأدبية ومن خلال الزمالة التي جمعت بينه وبين (قمر) ولكن هذه المرة وهو في موقعه الحقيقي حيث ينال قدراً كبيراً من التقدير والاحترام في وطنه، كما نالهما خارجه، ولدى كل مَنْ عرف فضله على الثقافة، وحبه للعروبة، وللغة العربية الصافية.
وأتذكر أيضاً في تلك المناسبة شاعرنا الكبير (سليمان العيسى) الذي ما زالت كلماته، وأشعاره تسكن في وجداننا منذ صغرنا، وكان الشاعر آنذاك يعيش في صنعاء.. ومَنْ سأذكر أيضاً؟ بل كيف لكلماتي الراجفة بالدمع، أو عباراتي المتواضعة هذه أن ترثي هذه القامات التي أغنت ثقافتنا العربية، ومخزوننا الإبداعي بالأدب، والفكر، وكان للشعر عند بعضهم الحظ الأوفر من إرثهم الأدبي.
من باب اليمن وعمره ألف عام عبر معرض الكتاب في تلك المناسبة، وقد حرصت وزارة الثقافة اليمنية حينذاك على إصدار أكبر عدد من الكتب وهي تحتفي من خلالها بعام الثقافة الذي كُرست فيه تلك الإصدارات إلى جانب الفعاليات الأدبية، والفنية المتنوعة لتعلن أن صنعاء هي بحق عاصمة للثقافة، شأنها شأن دمشق أيضاً التي كان الاختيار لها في عام 2008 لتكون هي الأخرى عاصمة متألقة للثقافة العربية فلا يغيب عني أن (قمر) كانت قد وعدت قرّاءها ذلك العام بأن تكرّس مقالاتها الأسبوعية طيلة عامٍ كامل لدى صحيفة الثورة في زاوية (معاً على الطريق) لتكتب عن دمشق، بتراثها، وتقاليدها، وما تتميز به من خصوصية دمشقية نثرت عبق عبيرها على كل الدنيا حتى وصلت إلى الأندلس، ولتكون دمشق (عاصمة ثقافة أبدية) وكما هو عنوان ذلك الكتاب الذي جُمعت فيه تلك المقالات.
مَنْ قال إن المبدعين يرحلون.. بل إنهم لا يفارقوننا مادامت آثارهم الأدبية بين أيدينا نقرؤها، ونعيد طباعتها مرات ومرات، ونجمعها في أعمال كاملة، ونكتب عنها نقداً، وتحليلاً.. أما العزاء الذي يحبس الدمع، ويحنو على جراح القلوب هو أن المبدع لاشك لا يموت مادام جزء من الروح لا يزال في الحياة إذ تخلده الكلمة، بل إنه يحيا من جديد مع كل كلمة كتبها، وتُقرأ له وكأنه يحدثنا من لحظتها.. فسلام لأرواح كل المبدعين فهم الغائبون الحاضرون وهم أيضاً الفائزون.