الملحق الثقافي- وفاء يونس:
يجب الاعتراف أولاً أنّ الّدكتور نبيل علي الباحث المصري المعروف كان من أوائل من مهّد الطريق لدراسة واقع اللغة العربيّة في زمن الأنترنت والشّابكة والتّطور الّرقمي، وقّدم في هذا المجال العديد من الكتب والّدراسات التي تناولت الموضوع بشكل كلّي، أو جزئي، ومن خلال كتابه المهمّ جداً ( الفجوة الرقمّية، رؤية عربيّة لمجتمع المعرفة ) وكان قد صدر بالتعاون أو الاشتراك مع الدكتورة نادية حجازي، عن سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، عام 2005م وحمل الرقم 318 / قدم فيه الباحثان فصلاً حمل عنوان : فجوة اللغة، رؤية معلوماتيّة واستغرق من الصفحة 305 إلى 391، من الكتاب, واليوم بعد خمسة عشرة عاماً على الّدراسة هذه ومع كلّ قفزة معرفيّة، يمكن طرح الّسؤال التالي : هل تغّير الحال الذي كانت عليه اللغة العربّية, وفي كتابه الذي صدر تحت عنوان : حروب اللغات ولغة الحرب -صدر عن دار الساحل يقول الباحث ديب علي حسن مستعرضاً هذه الدراسة ومتسائلاً :
وما الذي تحقق بعد عقد ونصف من الزّمن، على هذه الدّراسة؟
بداية, لابدّ من الوقوف عند ملامح الدّراسة والخلاصات التي وصلت إليها, وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم الدّراسات التي جاءت بعدها اتكأت عليها, واتخذتها نقطة انطلاق نحو المزيد من الأبحاث التي تفّرعت حسب الموضوعات التي طرحها الباحثان، علي وحجازي.
ماذا تعني الفجوة الرقمية ؟
لقد اقترح المؤلفان توزيعاً للمحتويات كما يلي :تقديم عام، تطرقا فيه الى أهميّة الاقتراب من الفجوة الرقميّة باعتبارها مصطلحاً غربياً جديداً ظهر إلى السّاحة الاعلاميّة عام1995 بالولايات المتحدة الأميركيّة، بموجب صدور تقرير وزارة التجارة الخارجيّة الشهير بعنوان (السقوط من فتحات الشبكة الفجوة الرقمية). كما توقفا عند تعريف مصطلح الفجوة الرقميّة، أي تلك الهوّة الفاصلة بين الدّول المتقدمة، و الدّول النّامية في الّنفاذ إلى مصادر المعلومات, و المعرفة والقدرة على استغلالها، وأسبابها.
ماذا يقصد بالفجوة الرقميّة؟. يقترح المؤلفان ثلاثة أنواع من التّعاريف من حيث مدى تغطيتها لدورة اكتساب المعرفة :تعريف ضّيق يحصر مفهوم الفجوة الّرقمية في ( النّفاذ إلى المعرفة من حيث توفر البنى التحتية اللازمة للحصول على موارد المعلومات و المعرفة بالوسائل الآليّة أساساً دون إغفال الوسائل غير الآليّة من خلال التواصل البشري..) إنّ هذا الّتعريف يرّكز على الحد الفاصل بين مدى توافر الشّبكات الاتصالاتية، ووسائل الّنفاذ إليها، وعناصر ربطها بشبكة الأنترنت، وتعريف أوسع، يضمّ إلى جانب الوصول إلى مصادر المعرفة، استيعابها من خلال التعبئة والتوعية والتعليم والتدرب، وبالتالي استثمارها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. وتعريف أشمل، أقل ما يقال عنه إنه يغطي الّنطاق الواسع لدورة اكتساب المعرفة، بالإضافة إلى توليد المعرفة الجديدة من خلال المؤسسات البحثيّة الإنتاجيّة و الخدماتيّة.
أسباب الفجوة الرقميّة:
الأسباب متعددة، تتراوح بين التكنولوجيّ والسياسيّ والاجتماعيّ الثقافيّ
الأسباب التكنولوجية، وتظهر في التطور السريع و المذهل للتكنولوجيا الحديثة، وتنامي الاحتكاريّة، وشدّة الاندماج المعرفيّ ،وتفاقم الانغلاق التكنولوجيّ.. أمّا الأسباب الاقتصاديّة فتتجلى في ارتفاع كلفة تقانة المعلومات، وتكتل الكبار(مجموعة الدول الثمانية، الاتحاد الأوربي..)والضّغط على الّصغار، وفرض عقوبات اقتصادية على دول نامية، واحتكار الشركات الكبرى و المتعددة الجنسيات لأسواق التجارة العالميّة، تكلفة الملكيّة الفكريّة، وانحياز التكنولوجيا اقتصادياً إلى جانب الأقوى على حساب الأضعف في حين ،تتمثل الأسباب السياسيّة في عوائق وضع سياسات التنمية المعلوماتيّة، وانحياز المنظمات الدوليّة إلى صف الكبار، وتفرد الولايات المتحدة الأميركيّة بالمحيط الجيومعلوماتي.
وفيما يتعلق بالأسباب السوسيوثقافيّة، فهي تتجلى في تدني مستوى الّتعليم، وعدم تكافؤ الفرص، الأمّية، والفجوة اللغويّة، والجمود المعجميّ، و الجمود التنظيميّ والتشريعيّ، وغياب الّثقافة العلميّة والتكنولوجّية.. وهكذا، فإنّ التّصدي للفجوة اللغويّة يعدّ مطلبًا أساسياً، ونقطة الانطلاق الحقيقيّة، ذلك أنّ مصير الّشعوب والأمم قد أصبح رهيناً بمصير لغاتها القوميّة، وقدرة هذه اللغة على الصّمود و المواجهة في أيكولوجية لغويّة عالميّة مليئة بالتحديات، وعلى هذه اللغات أن تتلاءم مع تواصل إنسانيّ، وتواصل ما بعد التّخاطب، وتواصل ما فوق اللغة.. وانطلاقاً مما سبق نتساءل كيف هو حال اللغة العربيّة في ضوء عصر العولمة والمعلوماتية ؟ وما هي السبل الناجعة للانتقال إلى مرحلة مجتمع المعرفة؟.
لا يختلف اثنان في أنّ اللغة العربيّة تعاني أزمة حادّة ومزدوجة، فمن جهة، فهي تشارك اللغات الأخرى تحديات العصر، ومن جهة أخرى، تعاني أزمة خانقة على مستويات التنظير والتعجيم و التعليم والتوظيف و التوثيق..ولا مندوحة عن الكلام، أن ما تعاني منه اليوم يرجع فيما يرجع إلى عجز أهلها، وتقاعسهم، لا نقص في تأهيلها وأهليتها إذ العربية مؤهلة أكثر من غيرها ليس فقط، لتلبية مطالب مجتمع المعرفة، بل أيضاً لتقوم بدور طليعي في المعرفة اللغويّة على المستوى الإنسانيّ، لما تتمتع به منظومتها النحويّة والصرفيّة والمعجميّة من خصائص ومميزات قلما توجد في لغة أخرى من قبيل التّوازن الّدقيق، المرونة النحويّة، الإنتاجيّة الصرفيّة العالية، التوسط اللغويّ، وهلمّا جرا.. ولتشخيص الفجوة اللغويّة العربية، لابّد من الوقوف عند الفجوات الفرعية التي تتناسل عن الفجوة الأمّ.
وتتجسد في الفجوات الآتية الذكر
– فجوة التّنظير اللساني، فجوة المعجم ، فجوة تعليم اللغة وتعلّمها،،فجوة الاستخدام اللغويّ، فجوة المعالجة الآليّة للغة العربيّة، فجوات البنى التحتيّة، والتي تتفرع بدورها إلى فجوة الموارد البشريّة، وفجوة موارد المعلومات اللغويّة وفجوة التوثيق اللغويّ ..وفيما يتعلق بأزمة الخطاب اللساني العربيّ المعاصر، يقدم الباحثان مجموعة أسباب منها:
1 – خطأ التوجهات اللسانية، وافتراض شفافية اللغة، و الصوريّة المفرطة، والتمسك بفكرة استقرار المعنى، وغياب المنهج المنظومي في الاقتراب من الظواهر اللغويّة، و التمركز حول المعنى اللغوي.. أما بالنسبة لفجوة المعجم العربي، فتتمثل في طغيان روح الّـتقليد على المعاجم العربيّة الحديثة، وعدم مسايرتها للمفاهيم و المصطلحات الجديدة، مما يعني أنّها لاتعكس كفاية المتكّلم العربيّ المعاصر، ونضرب مثالاً لذلك بالمعجم الوسيط والمعجم العربي الأساسي، ناهيك عن القواميس الصغيرة.. أمّا الحديث عن المعجم العربيّ التاريخيّ فقد مات المشروع في مهده بموت الألماني فيشر.
2 – أمّا وضع تعليم العربيّة وتعلمها، فليس بأحسن حالاً ممّا سبق، حيث طرق التّعليم ما تزال تقليديّة، وغير علميّة في غالب الأحوال، الشيء الذي نتج عنه قطاع تعليمي غير منتج، لاتربطه أي صلة بالمحيط السوسيواقتصادي، ولا علاقة له بالتنمية البشريّة بالمعنى الواسع، وهذا لا ينفي بعض المحاولات الإصلاحية في مناطق مختلفة من العالم العربي، والتي تسعى جاهدة إلى ربط التعليم بالتنمية المستدامة.. ولعلّ أسباب هذه الوضعية كثيرة، منها ما يرتبط بضعف الكفاءات، ومنها ما يرتبط بضعف البنية التحتيّة، وسوء تدبيرها، وغياب العقلنة في التسيير والتدبير والبرمجة.. أما استعمال اللغة العربيّة اليوم فيعاني من مزاحمة العاميّات والدّارجات، ولغات الإعلام المشوه، إنّنا إذن أمام سيل من التعددية اللغوّية والازدواجية اللغويّة..
مقترحات
خلاصة المقترحات التي قدمها الباحثان ص (386) :
– بلورة سياسة لغويّة على مستوى الوطن العربيّ، يساهم فيها اتحاد المجامع العربيّة، ويدعى إلى المشاركة فيها إلى جانب اللغويين وغيرهم من علماء التربية وعلماء النفس والاجتماع والبيولوجيين على أساس أنّ اللغة هي مسؤوليّة النّخبة المفّكرة قبل أن تكون مسؤوليّة الّساسة، وأهل الاختصاص.
– توازي جهود تطوير اللغة العربيّة مع جهود حوسبتها
– التوسع في الدّراسات المقارنة والتقابليّة للغة العربيّة
– المشاركة الفعّالة في جهود المنظمات الدوليّة، وعلى رأسها اليونسكو ومنظمات المجتمع المدنيّ العالميّة المدافعة عن الّتنوع اللغويّ وحماية اللغات القوميّة.
– إنشاء مركز قوميّ متخصص لرعاية أمور اللغة العربيّة تنظيراً ومعجما ًواستخداماً وحوسبةً.
– تشجيع القطاع الخاصّ على الاستثمار في مجال تكنولوجيا اللغة العربيّة، بإعداد نماذج من دراسات الجدوى الاقتصاديّة التي تثبت الجاذبيّة الاستثماريّة لهذا المجال التكنولوجيّ ذي العائد المرتفع.
أمّا تطوير المعجم العربي، فيوصي الباحثان بالتالي :
– مراجعة شاملة لآلية توليد الكلمات في العربيّة.
– إدراج علم المعجم في عمل المجامع ومناهج الجامعات، خاصة فيما يتعلق بالدّلالة المعجمّية.
– إنشاء قاعدة بيانات معجميّة للعربيّة الحديثة، تشمل البيانات الصّرفية والنحويّة والدلالية.
– بناء معجم للغة العربيّة الحديثة على أساس ذخائر النّصوص.
– تطوير معجم المفاهيم بترجمة معجم (روجيه الانكليزي ).
– بناء معجم وافٍ للتعابير ّعلى أن يشمل ما يحدد سلوكها التركيبي والسياقي.
– مراجعة شاملة لتعريفات المعاني في المعجم العربي.
– إنشاء نظام آلي لدعم عملية توليد المصطلحات الجديدة بطرائقها المتعددة تعريباً وترجمةً ومزجاً.
– توحيد الجهود التي تمّت في بناء بنوك المصطلحات.
– تجريد أمهات الّتراث العربيّ لاستخراج ما لم يتم تعجيمه من ثنايا نصوصها.
– تطوير نظام آلي للتحليل المعجميّ قادر على استنباط المكّونات الدلاليّة للمفردات، وكذلك العلاقات الدلاليّة لأنواع التصاحبات اللفظية المختلفة (ص388).
بدوره يدرس الدكتور ابراهيم صلاح أحمد الهدهد عميد كليّة اللغة العربيّة بالقاهرة هذه الفجوة الرّقمية (نشرها مركز زايد للدراسات والأبحاث عام2013م).
العدد 1125 – 20-12-2022