الثورة-هفاف ميهوب:
نادرون.. رغم أهمية وجودهم، ورغم حاجتنا الشديدة للكلمة التي يضيئون بها الحياة، عبر وعيهم ونور بصيرتهم…
أتكلم عن المثقفين فأينهم؟!! ..
هم بيننا ويعيشون حياتنا، وأيضاً يعانون معاناتنا، فيا ترى: أي نوعٍ منهم نحتاج حاليا، وكيف لهذا الذي نحتاجه أن يأخذ دوره الفعّال، فيتقدّم بعد إزاحة أنصاف وأرباع وأشباه المثقّفين، وردّهم مع ادّعاءاتهم؟…
غسان كامل ونوس: أديب وشاعر
“القدوةُ والمثال.. في الإقبال والتضحية”
مهمّ أن يُستذكَر المثقّفون بين حين وحين؛ والأهمّ أن يكونوا في البال والحضور كلّ حين. لاشكّ في أنّهم موجودون، ويقينيّ أنّهم يعانون؛ بل هم الأكثر معاناة؛ لأنّهم الأكثر حساسيّة ورهافة، والأكثر شعوراً بالمسؤوليّة الشخصيّة والجمعيّة، الآنيّة والمستقبليّة؛ بتمثّلهم لهموم الناس ومآسيهم، وطموحاتهم وآمالهم، والأكثر تأذّياً من السلبيّات في القول والممارسة، في مختلف المجالات؛ ومنهم من يظهر، ويتحرّك بحيويّة، ويقول رأيه، في الحيّز الممكن، والمنصّة المتاحة، وآخرون ينكفئون خيبة أو قنوطاً من استشراء الموبقات، وقلّة النوافذ، وكثرة الحرّاس والقوّالين المخوّلين والمتنطّحين، المؤهّلين والجاهلين والمدّعين؛ ومنهم للأسف من هم من أصحاب الكار الثقافيّ نفسه؛ وهذه بليّة كبرى، نُلام عليها؛ كما يلام سوانا؛ إذ إنّ عدداً مهمّاً منّا نحن معشر المثقّفين، أو المشتغلين في هذا المجال- وهذا الرأي محصّلة عقود من العمل المتّصل في الشأن الثقافيّ- لم يكونوا على مستوى اللقب والدور والمهمّة؛ وهذا من شأنه أن يعطي مسوّغاً للاستمرار في إهمالنا؛ ولكنّه لا يعطي أيّا كان، من المسؤولين والعامّة، الحقّ في التعميم والتجاهل.
ومن المؤسف أنّ التوجّه العام في مختلف الأحياز القريبة والبعيدة، الصغيرة والواسعة، ليس في صالح الثقافة ولا المثقّفين؛ أولويّة وإمكانيّات ومسؤوليّات وأفكاراً وحاجات؛ فليسوا في الحسبان، حين توضع الخطط المستقبليّة، ولا يُسألون حين تناقش، إلا قليلاً، وإن سئلوا؛ فللاستئناس أو سدّ الذرائع؛ ولا يؤخذ بأفكارهم، وليس لهم ما يفترض أن يكون، وما يستحقّون من اهتمام واحترام!
إنّ الواقع والحياة والمصير في حاجة دائمة إلى المثقّف الرؤيويّ الجادّ؛ فكيف إذا ما كنّا في مرحلة بالغة الأهمّيّة؛ عنوانها ومتنها وخلاصتها إعادة بناء الإنسان، الذي يمكنه أن يعيد بناء كلّ شيء على النحو الأفضل؟!
لا شكّ أنّ على المثقّف أن يتقدّم من نفسه، ويعرّف بقدراته واستعداده للإسهام في المشروع الوطنيّ الإنسانيّ، ولا ينتظر من قد لا يأتي إليه باحثاً منقّباً مسلّماً مفاتيح الدخول والائتمان والسيادة، وعليه أن يكون، ويصمد، قدوة ومثالاً في الإقبال والعطاء والتضحية، وألا يدخل في حسابات الربح الشخصيّ المادّي وسواه، وألا يعمل لحساب أحد؛ بل للناس والمصلحة العامّة؛ وهذا لا يقلّل من مسؤوليّة الجهات جميعها؛ الرسميّة والخاصّة؛ بمؤسّساتها العديدة والمتنوّعة؛ المعنيّة بالثقافة مباشرة وسواها؛ في المضيّ برؤيا واضحة ومتكاملة، وبخطا جدّيّة، في البحث عن المثقّفين الحقيقيّين، وتحفيزهم، ومنحهم الفرص والوقت والإمكانيّات؛ من أجل البناء العام والإنجاز العام.
وجيه حسن: كاتب قصة ورواية
“صاحبُ ضميرٍ .. يهزُّ عادات الناس الذهنية”
في مفتتح الكلام، فإنّ المثقف الذي نحن بمسِيس الحاجة إليه اليوم، وفي كلّ يوم، هو صاحب الخُلق القويم، والفكر النظيف، والقلم الحرّ، والموقف الجريء، الذي يشير إلى الأخطاء والمواجع والمفاسد بلا تهيّب، ومن غير ضعف.
ولسنا اليوم في وطننا السوري، الذي تعرّض ولايزال، لأبشع حرب كونية ضروس، بحاجة إلى مثقفٍ رماديّ متأرجح، أو إلى مثقف مأجور، يبيع فكره وضميره وصنعته بحفنة من المال..
إنّ من واجبات المثقف الحقيقي، صاحب الخلق والضمير والإبداع، أن يهزّ عادات الناس الذهنية، وأن يعمل جاهداً على تغيير الطريقة أو الطرق التي يفكرون بها، ويعملون بها الأشياء.
وحيال ما يجري في مجتمعنا، وما نلاقيه من مواجع وصرخات، هل يبقى بعض مثقفينا متفرّجين على ما يجري فوق أرضنا الطّهور؟
إنّ دور المثقف الحقيقي، يتجلّى بتوجيه البوصلة، وتوعية أناسِيّ المجتمع بما يُحاك لوطنهم في السرّ والعلن، وما يقوم به حفنة من الفَسَدة الضّالين لتخريب صورة مجتمعهم السوري..
أغلب المثقفين، أو فلنقل قلّة منهم، من باب حسن الظنّ، قد حيّدوا أنفسهم وأقلامهم وأصواتهم عن قول الحقيقة، وقرْع ناقوس الخطر، لسبب قد يكون مردّه الخوف، أو الكفر بالهوية الوطنية من الأساس، أو “لغاية مبيّتة بنفس يعقوب”، وهذا الأمر برمّته غير مبرّر..
إنّ العمل الثقافي بغير إخلاص ولا اقتداء ولا اقتدار، وبغير روح وطنية صادقة، لا يأتي أُكلَه، حينها وعندها يكون صاحبه، أشبه ما يكون بالمسافر “يملأ جرابَه رملاً يثقلُه، ولا ينفعُه”..
إنّ من أبسط مسؤوليات الكاتب الباهر، والمثقف القدوة، الذّود عن قضايا الحق والخير والكبرياء، لوطنه أولاً، ولأناسِيّ مجتمعه تالياً، وأن يعمل على دفْع كيديّة المرجفين، أرباب الأقلام المأجورة، والضمائر المُشتَراة، والوجوه “القزحيّة”، المسفوحة هزالاً وتصحّراً وتنازلاً حدّ الثّمالة..
ختاماً، لا بدّ من معرفة أنّ كل الشعوب المتحضّرة، تسعى وراء الممارسات الثقافية الحقّة، “لجعل وجودها أكثر ديناميكيّة وحياة ومعنى”!!..
ثراء الرومي: مترجمة وشاعرة
“حاضرون كشمسٍ.. تجهلُ العتمة ولا تراها”
المثقّفون موجودون، لكن، قد تكبّل الخيباتِ بعضَهم فينكفئون على أنفسهم، ويختارون الظّلّ مستسلمين لواقعٍ رديء، يسود فيه المدّعون على أكثرَ من منبر، وفي أكثرَ من مجال عمل، ويتكاثرون كالوباء. ورغم سوداويّة هذه المشهديّة، فالمثقّف الحقيقيّ قدره أن يكون صاحب رسالة نبيلة لا يملك معها الانسحاب مهما تلقّى من صفعات الواقع وانتكاساته. إن استسلمتِ أنتِ واستسلمتُ أنا، فمن سيأخذ على عاتقه حملَ الرّاية للأجيال القادمة التي من حقّها علينا أن يشعل كلٌّ منّا شمعةً في دروبها، مهما صغرت أو كبرت..
نحن مؤتمنون على رسالة سامية لا مجال للتّراجع عنها، ولعلّها أشبه ما تكون بالأمومة أو الأبوّة، فمواجهة شتّى أنواع الصّعاب والظروف القاهرة، لن تدفع بأبٍ أو أمٍّ حقيقيَّين، إلى التّخلّي عن أبنائهم مهما كلّف الثّمن.
هذه المقاربة تضعنا أمام تحدٍّ كبير، وهو أن ننهض بعد كلّ خيبة أمل تنسف مشروعاً تنويريّاً رسمناه في أذهاننا بكلّ شغف، وسعَيْنا لتحقيقه فتعثّرْنا بخيبات واقعٍ أليم يسعى فيه متسلّقون لسرقة أحلامنا ليصنعوا فقاعاتهم التي لن تدوم بأيّ حال.
الواجب يحتّم أن نواصل شغفنا في رسم الطّريق، ونسعى لملء النّصف الفارغ من الكأس، ولا نكتفي بالتّباهي بأنّنا قادرون على رؤية النّصف الملآن فحسب. والسّبيل إلى ذلك أن نضع نصب أعيننا إحراز الفرق مهما كان ضئيلاً في البداية.
حين أهدي طفلة أو طفلاً قصّة صغيرة وأحفّز على قراءتها، فأنا أزرع بذرة وحين أصل بالأطفال إلى الاهتمام بالأمر، فبذلك أكون قد واكبت تطوّر البذرة إلى غرسة خضراء يتحتّم عليّ أن أسقيها بالاهتمام والمتابعة. وهذه مسؤوليّة كلّ مربٍّ على اختلاف موقعه ودرجة ثقافته، فالثّقافة ليست حكراً على حاملي الشّهادات الذين قد يكون بعضهم منها براء.
فلنؤمن برسالة خصّنا الله بها حين حبانا مواهبنا، وحريٌّ بنا البحث عن الموهوبين، وإنارة الطّريق لمن يجهله، عسانا نوفَّق في إحراز ذلك الفرق.
الواقع يحمل تحدّيات كبيرة، لكنّ تضافر الجهود، وامتلاك الحسّ العالي بالمسؤوليّة تجاه الأجيال الصّاعدة، هما ما نحتاجه لتجاوز هذه المرحلة العصيبة التي أصبحت القراءة فيها في أدنى سلّم الأولويّات. لذلك أجدني أحتفي بالقرّاء النّهمين النّادرين من الأطفال والشّباب، كجواهر كريمة يفتقر هذا الزّمن المغبَرّ إلى بريقها الأصيل.
المثقّفون الحقيقيّون حاضرون كشمسٍ تجهل العتمة لأنّها لا تراها، وجلّ ما تسعى إليه هذه الشّمس، هو أن تغمر الكون بالدّفء والمحبة والنّور الذي يبدّد سخرية العتمة من حيث لا يدري بها.