الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
أرى أنّ الأجناس الأدبية مازالت محافظة على هوّيتها، لكنّها كسائر أيّ شيء تحت تأثير العصر والحداثة.. فمثلاً لم نجد تلك المقالات التي جاءت على هيئة أو شاكلة مقامات : بديع الزمان الهمذاني.. و ربّما المقامات ذاتها هي المقالات التي أُستحدثت فيما بعد عن المقالات… وهكذا مثلاً لم يبقَ شعر الملاحم… أو أدب الملاحم كما هو.. بل تحوّل متطوّراً بهوّيته وشكله إلى مايسمى بزمننا الرواية… مع أنّ الجوهر واحد لكن اختلف الشكل وتغيّر أو تلوّن الأُسلوب حسب الزمن والبيئة والعصر.. كذلك الشعر بقى جنس الشعر لكنه لم يبق فقط كشعر المعلقات العمودي والموزون المقفّى كما ارتاه الخليل بن أحمد الفراهيدي… ففي النهاية لابدّ من مستحدثات بكل مجال يحدثه عامل الزمن ومايفرضه… فالقصة أعتقد أنها لم تكن موجودة من قبل… بل كانت الحكمة…. مقالات الحكمة الواردة بالخطب مثلاً كنهج البلاغة، وكانت الحكاية التي هي الآن الرواية، وجاءت القصة التي ربما تكون بديل عن الخطبة… وتولّدت الأقصوصة.. وهكذا…. فتداخل الأجناس وتنوعها وتلوّنها وتعدّدها وتفرّعها من أصولها ضروري وطبيعي وهام ليواكب المرحلة، وأذكر مثلاً أدب الأطفال، فلم أسمع قديماً عن أدب أو حكاية أو شعر أو خطبة موجهة للأطفال، الآن لدينا مايسمى أدب الطفل… وكذلك في المجالات دخل التخصص وتدخلت العلوم ثم فصّلت وأخذت تخصص ثم تخصيص التخصص أو تخصص التخصص، وربّما في الأدب صار الأمر معاكساً فنجد شعراً يسرد رواية أو يحكي ملحمة وأسطورة، ونجد رواية الآن تتضمّن شعراً وتسرد أقاصيص وتتشابك في نسيجها لتأخذ شكلاً ومضموناً جديداً نعتبره نحن تداخل أجناس أو ضياع أسس ومفاهيم وسياقات، لكنّ الأدب يبقى أدب، فمن يكتب الرواية لاشكّ لديه نفحات الشعر والخيال ورقتهما ليكتب شعراً، ومن يكتب شعراً فلا شك أن لديه ثقافة ما وخيالاً وقدرة على استخدام الصور والبيان لتجسيد حادثة أشبه بالملحمة وهكذا…. كما أننا لا ننسى ولادة لغة أخرى إعلامية شاركت الأدب بعض تخصصاته وأخذت أو استعارت بعض صفاته وبالمقابل ساعدته وأخذت عنه حملاً لتوصله إلى جمهوره… فاللغة الإعلامية أو الكتابة الإعلامية ليست إلا من أصل اللغة والأدب وتفرعاته… والأدب يبقى كالمحيط والبحر شامل لاينقص منه أو يزيد عليه بعض حركاته…. بل ربما تتمازج الألوان أكثر لتخرج برؤية أو صورة مبتدعة جديدة وجميلة.
وأنا مثلاً أضمّن كتاباتي بأجناس مختلفة، فأحب أن تحتضن روايتي الشعر والفلسفة وكذلك أشعاري أتمنى أن تحمل صبغة الحكمة أو الأقصوصة أو المثل والعبرة…. فلا أكتب حكاية بسيطة ولا قصيدة رتيبة… النص كلّما تضمّن أكثر كلما أصبح أغنى… كاللوحة الملونة… والتقرير المصور… كإبداع الخالق في غابة أو قطعة أرض في الربيع… َفالزهر الناعم لا يغطي على الزهر الآخر.. و الشجرة لا تلغي الصخرة والعصفور موجود مع النسر… كل ذلك في تناغم وانسجام.
فاللون الأدبي الواحد لم يختفِ لصالح النص العام… بل أصبح متعدد الأبعاد عند البعض… وبقي عند البعض بأحاديته الواحدة… فمثلاً هناك شعراء محال أن تكتب إلّا بالشعر… وكتّاب قصة لا يكتبون إلا القصة أو الرواية… وخطباء لا يؤلفون إلا الخطب… وإذا وجدنا عند البعض هذا التلوّن أو التنوّع أو التعدد فهذا يعود لقدرة الكاتب وامتلاكه لأكثر من مَلكة أو هبة أو أداة….
العدد 1127 – 10-1-2023