د.خلف الفتاح:
منذ الارهاصات الأولى للحركة الصهيونية في القرن الثامن عشر بوصفها دعوة لمعالجة وضع اليهود في أوروبا الذين لم ينخرطوا في المجتمعات الأوروبية بسبب الغيتو الذي فرضوه على أنفسهم، وبحكم الثقافة والتقاليد والأحكام المستمدة من الشريعة اليهودية والتي تقاطعت في جانب منها لحلم توراتي يتمثل بإقامة وطن لليهود وعبر ثنائية الديني والسياسي الإيديولوجي تحركت الحالة اليهودية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
وفي قراءة موضوعية وتاريخية يكتشف المتابع لمسار تلك الحركة التي تحولت إلى كيان سياسي استيطاني إحلالي أن تضاريس ومنعرجات مسار ذلك الكيان وسير الأحداث ودينامية الصراع العربي الإسرائيلي تتجه على الأقل من الجانب الآخر إلى منحى ديني، وبالرغم من الخلافات بين الصهيونية الدينية وغيرها من اتجاهات في مفهوم قيام الدولة وفي الأسس التي تقوم عليها تظهر شخصية يهودية هي من أخطرها على الإطلاق وهي شخصية الربي يهودا كوك الذي يعتبرمؤسس الصهيونية الدينية، وخلفه ابنه زري يهودا كوك، وهو أول ربي اشكنازي في عهد الانتداب البريطاني، وكان قد انتقل من الولايات المتحدة الأميركية إلى فلسطين وله كتابات كثيرة منها (اوراك)، والسؤال كيف نظر الربي يهودا كوك إلى الحركة الصهيونية ونشير هنا إلى أنه أنشأ نوعاً من اللاهوت اليهودي وهو الصوفي القبالي المشيحاني ويعتبر أنه يجب أن يكون للاهوت اليهودي دور في الحركة الصهيونية العلمانية وعلى أتباعه ألا يخجلوا من تدينهم داخل الحركة الصهيونية لأنها وإن تصورت أنها علمانية إلا أنها في الحقيقة تنخرط في مشروع مشيحاني دون أن تشعر.
فالصهيونية السياسية العلمانية اليسارية هي من حيث لا تشعر تنخرط في سياق الحركة المشيحانية لذلك كان الربي متساهلاً جداً مع اليهود المنخرطين في الحركة العلمانية والملاحدة الذين يستهزؤون بالدين حيث سيكونون الأداة التي ستسرع في الخلاص، لذلك يجب أن يكون لهم مكان داخل مشروع الخلاص الذي بشر به وأيد مشروع الاستيطان وقال بالانتقال إلى فلسطين وطالب اليهود الأوروبيين أن ينخرطوا في الحركة الصهيونية وأن يحولوا شيئاً فشيئاً وجهة هذه الحركة التي نشأت من حيث المبدأ بمضمون علماني.
وبتأثير الربي يهودا كوك نجد أنه سيتم إفراغ الحركة الصهيونية من مضمونها العلماني وحشوها بمضمون ديني فاستطاعت تعاليم الربي كوك أن تستولي على هذه الصهيونية ولاسيما بعد 1967 وهي التي كانت تغلف نفسها حتى ذلك التاريخ بطابع علماني ويساري، فالربي أنشأ مدرسة دينية سميت ( يشي فا ) أثناء الانتداب وهي التي مهدت لإخراج الصهيونية من بوتقة إلى بوتقة، أي من صهيونية ما قبل 1948 حتى 1967 إلى ما يمكن تسميته الصهيونية الجديدة وهي التي استولى عليها تلاميذ الربي كوك باتجاه التدين أو اليمين الديني المسيطر راهناً.
وبنظرة تاريخية نجد أن هذا الكيان لم يقم عام 1948 إلا بعد أن كانت الأسس الدينية لقيامه قد توفرت، ومنذ عام 1948حتى 1967 كان ثمة علاقة ما بين الدين والصهيونية أشبه ما تكون بالستاتيكو يمثلها بن غوريون من حزب ماباي وحركة مزراحي، فثمة نوع من التفاهم والتنازلات المتبادلة بين التيارين في وثيقة ستاتيكو أو الوضع القائم أنشأت (دولة ) وصفها البعض بأنها ذات سمعة دينية سيئة لجهة أن يحافظ الماباي واليسار الإسرائيلي على دولة ذات مظاهر علمانية لا يتدخل المتدينون كثيراً في شؤونها، وفي المقابل يعطي بن غوريون لحركة المزراحي ومن ثم المفدال هؤلاء المتدينون الإشراف على الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والتعليم واستقلالية نسبية عن “الدولة”، إضافة إلى احترام بعض التقاليد الثقافية اليهودية.
إذا ارتضي المتدينون الحلول الوسط في استقبال المستوطنين وتثقيفهم وتوطينهم بينهم وبين السلطة القائمة التي تعرف نفسها بالعلمانية بمعنى: لا تتدخلوا بشؤون (الدولة الكبرى السيادية) ونترك لكم جانباً من السلطات، أو لنقل الصلاحيات وكان هذا هو ما يعرف باحترام الوضع القائم وما أطلق عليه المفكر المعارض للصهيونية يهشوا ليبوفتش بالعلاقة المتبادلة أو المنافع المتبادلة أو (بالبغاء المزدوج) المتدينين مع “الدولة” أو السلطة والسلطة، أو “الدولة” مع المتدينين.
هذا التوازن في العلاقة جعل الحكم في يد الصهيونية السياسية وتوجهاتها اليسارية حتى عام 1967 ففي تلك الفترة حدثت تطورات مهمة في الشارع الإسرائيلي، فالبعض اعتبر أن المشروع الصهيوني نجح وانتصر بقيام “إسرائيل” كما أراد تيودور هرتزل، وأصبحت “دولة” قائمة الأركان وقوية عسكرياً ولا خوف على زوالها من الناحية العسكرية ولا الايديولوجية، سيما وأنها أنشأت كياناً علمياً وتقانياً قبل قيامها كالجامعة العبرية ومعهد التخنيون ثم بعد قيامها صنعت القنبلة الذرية لتضمن تفوقها، في هذه الفترة أي من عام 1948 حتى 1967 ظهر تيار أطلق عليه (المؤرخون الجدد) نظر إلى السردية الصهيونية نظرة تشكيكية تقترب أكثر من الرواية الفلسطينية ويستمر هذا التيار بعد 1967 ويمثله مؤرخون من قبيل بني موريس افي شتاين وحوالي 13 مؤرخاً هؤلاء اعتبروا أنه يجب المرور أو العبور من الصهيونية إلى ما بعد الصهيونية، أي إيجاد حل للعيش وسط الفضاء العربي الفلسطيني ولم لا يكون حل الدولتين أو الدولة ثنائية القومية، وهذا لا يحدث إلا من خلال إعادة النظر في الرواية الرسمية الإسرائيلية بعد 1948.
تلك العلاقة الهشة ما بين التيار الديني وحزب العمل والمعراخ حتى 1967 لم تستمر على ما هي عليه حيث حدث شيء مهم في “إسرائيل” في إطار العلاقة ما بين الدين والدولة وطريقة تصور الصراع العربي الإسرائيلي، لا سيما بعد معاهدات الصلح وموجات التطبيع ومحاولة قطع الصلة ما بين فلسطين وعروبتها، وتصوير الصراع على أنه بين الاسرائيليين والفلسطينيين فقط.
ففي حرب حزيران عام 1967 لم يصدق اليهود ما حدث حيث شعر الإسرائيليون أنهم ليسوا في مأمن مما جرى، ويذكر ليفي اشكول رئيس وزراء “إسرائيل” آنذاك في مذكراته أنه كان يبكي عندما يستمع إلى التهديدات العربية، فبعد حرب 1967 اختفى ذلك الخوف من العرب عند الإسرائيليين حيث سماها الإسرائيليون حرب الأيام الستة، وهي في حقيقتها حرب ساعات ستة ففي لحظات تم تدمير سلاح الجو المصري واحتلال سيناء والحدث الأبرز ( توحيد القدس ) في تلك الأجواء نظر في “إسرائيل” على أن ما حصل هو أشبه بمعجزة إلهية، في حين أن بعض التنظيمات والتيارات العربية نظرت لما حصل من هزيمة على أنه عقوبة إلهية بحق الأنظمة القومية والعلمانية (الملحدة)، ما شكل ووفر مناخاً لتنامي التيارات الدينية وتراجع التيارات القومية على مستوى الساحة العربية.
وعلى الضفة الأخرى نظر إليه في “إسرائيل” على أنه تدخل الرب لإنقاذ شعب “إسرائيل” وهذا الشعور انتاب حتى العلمانيين واليساريين وكافة القوى غير الدينية، فما بالك بالمتدينين؟ حيث برزت حالة يمكن وصفها بالحمية الدينية في “إسرائيل” أو ما يسمى في الخطاب الديني الصحوة الدينية العارمة وعودة إلى التوبة (حازارا بيتيشوفا ) الصحوة الدينية العارمة وعودة إلى التوبة ( باعال بيتيشوفا ) أي العودة إلى أحضان اليهودية، واستمر ذلك حتى حرب 1973 حيث تراجع وشبه انهيار للأحزاب التقليدية والعودة للأحزاب القومية المتشددة مثل حزب حيروت بقيادة مناحيم بيغن الذي يشكل امتداداً للصهيونية القومية التصحيحية كما يصفونها، فالذي حدث بعد1967 هو التقاء بين تيار قومي عنيف مع يمين ديني متشدد منحدر من يهودا كوك وهناك بداية خلاص بظهور (المسيح)، فنحن أمام التقاء بين يمين ديني ويمين قومي، وسنكون أمام خلطة ملتهبة تتحكم في “إسرائيل” فثمة بعد أساسي ديني في الصراع يمثل اللقاء بين طرفين متطرفين.
إذن ( دولة إسرائيل ) التوراتية أصبحت في أيدي قادة اليهود وتحت عنوان أرض “إسرائيل” الكاملة ويجب استيطان كل أرضها واكتسابها عن طريق حرب 1967 بما فيها الجولان ويهودا والسامرة في الضفة الغربية، وأصبح الحديث عن ثلاثية أرض “إسرائيل وشعب إسرائيل وتورات إسرائيل” أرض كتاب شعب يظهر ويبرز فكرة تشكل مجموعات صغيرة متشددة تؤمن وتنادي “بدولة إسرائيل الكبرى” وتدخل في مجموعات كبرى ضعيفة الصلة بالدين اليهودي وتحاول بوسائل تربوية إيديولوجية جلب هؤلاء العلمانيين إلى الحظيرة الدينية المتشددة.
بعد حرب تشرين عام 1973 تحت عناون التقصير في حرب (يوم الغفران) برز على الساحة الحزبية والسياسية حزب حيروت والحريدية المتطرفة والذي انتصر بالانتخابات بعد سقوط حزب العمل وغولدا مائير تحت عنوان التقصير في (حرب يوم الغفران ) والمقصود بها طبعاً حرب تشرين وعلى خلفية تقرير لجنة اغرانات وتحميلها ما سمي التقصير في الحرب للحكومة القائمة عندها سيخرج اليسار ويأتي مناحيم بيغن ويركع أمام ابن ابراهام كوك الصهيوني القومي ويعطي إشارة الانطلاق للجماعات الدينية لتنشر في فلسطين فساداً، فأصبحنا أمام صهيونية عنيفة مؤسسها جابو تنسكي وتلميذه مناحيم بيغن الإرهابي، وتسعى لافتكاك الأرض بالقوة واستيطان كل أرض احتلت عام 1967 لاسيما وأن مناحيم بيغن هو الابن الروحي لجابوتنسكي الذي عنده نص شهير بعنوان الجدار الحديدي تتأسس فكرته على أنه لو كنت فلسطينياً لرفضت المشروع الصهيوني، فالفلسطينيون على حق في رفضهم لأنه يعني افتكاك أرض يعتبرونها ليست لنا ولا دخل للفلسطينيين فيما حدث لليهود في أوروبا، ولا يعنيهم فما معنى الجدار الحديدي والفكرة لديه أنه لا بد من وطن لليهود وليس بالضرورة دينياً ولكن فلسطين وطن يجب أن نسيطر عليه، وقال: علينا أن نقتل في العرب ليس فعل المقاومة فهم سيقاوموننا، الحل هو أن نقتل عند العرب الرغبة في المقاومة بمعنى ألا يفكر العربي في مقاومة المشروع الصهيوني باستعمال حجم من القوة العنيفة والمدمرة، بحيث يجعل العربي مستقبلاً ييئس ولا يفكر بالمقاومة، ولذلك أنشأ الشبيبة العنيفة وجماعة شتيرن وانتمى إليه كل من مناحيم بيغن واسحق شامير، فهذا هو المناخ الذي سيحتضن الجماعات الدينية ويعطي بيغين الجماعات
الصهيونية صكاً على بياض لاستيطان كافة المناطق بما يسمى أرض “إسرائيل” الكاملة.
وهنا لا بد من التوقف عند مسألتين تحكمان الصهيونية الدينية المنفلتة من عقالها لهما صلة بما يجري حالياً بالمنطقة، أولهما حركة ما يسمى الغلاة في الاستيطان بوصفه الفكرة الطاغية في الكيان الصهيوني ولاسيما حركة غوش ايمونيم وأمناء جبل الهيكل المزعوم، وحركة كاخ (وكاهانا حي) كل هذه الحركات وعشرات الحركات المنفلتة وكلها تعود إلى فكرة غوش ايمونيم التي وجدت القيادة الروحية في ابن الربي كوك تسفي ويهودا كوك تعبيراً عنها، وستبدأ العمل تحت حركته عبر غوش ايمونيم وزعيمها مائير دافيد كاهانا لأجل بناء الهيكل الثالث، فهذا هو المناخ الذي سيحتضن الجماعات الدينية وكيف تنظر لموضوع القدس وبناء الهيكل “فإسرائيل” عملياً تتجه نحو المناخ الديني والصهيونية الدينية منذ حوالي ستين عاماً، وإذا تواصل هذا المسار وهذا التيار فإن هدم المسجد الأقصى هو بالنسبة لهم ضرورة توراتية حتى لا نقول شيئا آخر، فيجب ألا يتغابى العرب والمسلمون ويدركوا أن فكرة هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة هما أمر متوقع إذا ما تواصل الأمر على هذه الشاكلة لضرورة حسابية دينية توراتية حسب نهج اليمين الديني المتطرف في الكيان الصهيوني وتعبيراته السياسية.
وباستعادة ذاكرة تاريخية ليست بالبعيدة ثمة محطات ومفاصل مهمة في تاريخ هذه الصهيونية الدينية منذ عام 1973 يجب التوقف عندها أولها حرب لبنان ومؤتمر أوسلو والانتفاضة الأولى والثانية وحدث أمر مهم في تاريخ العلاقة بين الدين والدولة في “إسرائيل” هو وإن كان ذا أبعاد داخلية ولكن له أبعاد تهم الباحث في تاريخ الصراع العربي الصهيوني ومستقبله والحادثة هي اغتيال اسحق رابين.
اغتيال رابين تم بسبب اتفاق أوسلو 1993 وفي تشرين الثاني 1995 وهو ينتمي إلى حزب العمل اليساري وهو من خلفية غير متدينة ونادراً ما لبس الكبة اليهودية ووضعها على رأسه وهو شخص لا تربطه صلة مباشرة مع الجماعات الدينية أو الفكر المنحدر من الربي كوك مع الإشارة إلى أنه هو من قاد مع موشي ديان حرب 1967 واحتل وقاد الجيش للقدس الشرقية، فهو بالنسبة للإسرائيليين له إنجازات كبيرة ولكنه لم يكن متديناً وهو الذي سيقود الخطوة باتجاه اتفاقيات أوسلو 1993 والتي دفعت بالجماعات الدينية إلى نوع من الهستيريا، هستيريا دينية وهنا نشير إلى أن اغتيال رابين تم بفتاوى دينية أصدرتها الجماعات الدينية وغلاة الاستيطان، فهي ليست عملية اغتيال عادية لمعارض سياسي فلم يتجرأ ايغال عامير الذي كان يشتغل عميل مزدوج مع الشاباك ومكلفاً باختراق الجماعات الدينية لحساب الشاباك، ولكن عمله معها جعله مستقطباً منها ومتأثراً بفكرها وسيقدم على اغتيال رابين بسبب فتاوى دينية أصدرها كبار حاخامات الاستيطان وحاخامات المؤمنين بأرض “إسرائيل” الكبرى، ورابين قتل بفتوى ترجع لربي بن ميمون وهو فتوى تعطى لقتل من يتساهل بإعطاء أرض “إسرائيل” إلى الأغيار حيث تحرك عامير لقتل رابين بدفع من هؤلاء الحاخامات المتدينين، وهذا أحدث ضجة كبيرة وخللاً في الوعي الإسرائيلي، فمن النادر في التاريخ أن يقدم يهودي على قتل يهودي مهما كانت الأسباب.
المسألة الثانية سيظهر الربي مائير كاهانا مؤثراً بشكل كبير ويجب الاهتمام به يقرأ حقيقة وما سببه للصراع العربي الصهيوني فكاهانا هو صهيوني أمريكي منحدر من فكر غوش ايمونيم وحركة كاهانا هذه شعارها يجب الانتباه له عندما وصل إلى الكنيست في هذا النص عبر عن جوهر فكر الصهيونية الاستيطانية المغالية الشرسة، حيث سيتحدث كاهانا لكل أعضاء الكنيست بالقول واستشهد بالإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين يقول الإصحاح :” خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى أرض المورية واصحبه إلى محرقة أحد الجبال الذي أقول لك فبكر ابراهيم صباحاً وشد الرحال على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه واسحق ابنه المحرقة إلى الموقع الذي أشار إليه الله، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما”.
هذه الآية يجب الاهتمام بها حيث يخاطب كاهانا أعضاء الكنيست حيث يقصد أن يشير إلى أعضاء الكنيست هل يرون ما يراه حيث أن إبراهيم يخاطب الغلامين أنكما لا تريان ما أراه أنا وابني فهم لا يرون موقع المحرقة إذن أنتم يا نواب الشعب بمختلف أطيافهم بمثابة الحمار والغلامين اللذين اصطحبهما إبراهيم أنتم لا ترون شيئاً، أنتم لا ترون ما أراه أنا كاهانا أنتم لا ترون ما أرى، ما سيحدث لاسرائيل في المستقبل، تماماً كما كان يرى ابراهيم في الموقع الذي سيذبح فيه ابراهيم ابنه بحسب التوراة أنتم يا نواب الكنيست كالحمير ما الذي لا ترونه هو التالي: لا يوجد فلسطيني جيد ولا يوجد عربي جيد، العربي الجيد هو المقتول أو في أفضل الحالات ملقي به خارج أرض “إسرائيل” هشلما لأن عنده كتاب بعنوان: يجب أن يرحلوا، فالفلسطيني الذي يعيش في الداخل يجب
فقط أن نحسن حياته ونعطيه الماء والكهرباء والتعليم ليصير مواطناً جيداً في أرض “إسرائيل” وهذا لن يحدث مطلقاً لأن هذا الفلسطيني سيظل فلسطنياً معادياً لإسرائيل وللصهيونية والمشروع الصهيوني، لأنه في اليوم الذي تحتفلون فيه بعيد (الاستقلال) هو يبكي ويحيي يوم النكبة في اليوم الذي تنشدون فيه نشيد (هاتكفا الأمل) هو يغني نشيد موطني الخ.. ويجب أن تفهموا أن الحل بالنسبة للفلسطينيين هو إخراجهم بالقوة بالنسبة لعرب الداخل والتخلص منهم بكل الوسائل الممكنة هذا هو مائير كاهانا الذي سيتم اغتياله في نيويورك وهو العميل للاستخبارات الأميركية على يد سيد نصير المصري.
مائير كاهانا خلف شخصية أخرى هي شخصية دموية هي باروخ غولد شتاين الذي هو طبيب ينتمي إلى حركة كاهانا وغوش ايمونيم المغالية والمتطرفة وهو الذي تسبب في مجزرة الحرم الإبراهيمي حيث دخل على المصلين فجراً وقام بقتل عدد كبير من المصلين وهم ركع سجد في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
هذا المجرم صرح أنه حتى بعد أن يعود وتتاح له الفرصة سيعاود ما قام به مرة ثانية دون تردد، هذا المجرم صار قبره مزاراً ومحجاً لليهود الصهاينة من هذا التيار الاستيطاني المتطرف الديني يتبركون به ويحجون إليه، فعملياً فكرة القوة والعنف واستباحة الدم هي جزء أساسي من هذه التركيبة الدينية القومية أي الصهيونية الدينية ’والصهيونية القومية تجسيداً ترجمة لمضمون ومحتوى كتاب جابوتنسكي الجدار الحديدي.
إذن يجب ألا نتصور أن هذا التيار الذي عمره أكثر من خمس وستين سنة ويزداد تشدداً في كل مرة ومرحلة وانغلاقاً وغرقاً في موضوع الاستيطان أن يتقبل ما هو مطروح سياسياً تحت عنوان حل الدولتين أو الدولة ثنائية القومية، فالاستيطان الذي تقوم به هذه الجماعات المتطرفة بمؤازرة السلطة السياسية في الكيان الصهيوني أنهت عملياً موضوعة أوسلو وحل الدولتين ولاسيما أن أوسلو كان من المفترض أن ينجز خلال خمس سنوات كل مضامينه علماً أن اسحق شامير رئيس وزراء الكيان آنذاك قال بعد أوسلو أنه لن يتحقق شيء منه ولو بعد عشرين أو ثلاثين سنة وهو ما حصل فعلاً في واقع الحال.
فعملياً الذي حدث هو التالي يتفاوض اثنان حول ثماني قطع من الجبنة وكيف نتقاسمها ولكن أثناء التفاوض يتم التهام القطعة بعد الأخرى حتى يتم الانتهاء من تناول سبع قطع فلا يبقى سوى قطعة واحدة يكون التفاوض حول تقاسمها وهذا هو النهج المتبع من قبل كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وحتى الآن عبر سياسة زرع المستوطنات في كل مكان بحيث يستحيل مع ذلك قيام دولة أو كيان قابل للحياة بحكم الواقع القائم سواء في نطاق حل الدولتين أو دولة ثنائية القومية لأن الحل الذي ترتئيه وتعمل وفقه هذه الجماعات هو التخلص من هذا العبء الديموغرافي وهو بقاء جزء من العرب داخل فلسطين المحتلة.
أما النقطة الثانية التي يجب الحديث فيها فلها صلة بما جرى أخيراً في الحرم القدسي وكيف تنظر هذه الصهيونية الدينية ومن حضر منها من حركات شباب التلال وكاهانا حي وغوش ايمونيم والهيكل الثالث وأمناء الهيكل كيف ينظر هؤلاء إلى قضية القدس فالمشكلة بالنسبة لهم بدأت منذ عام 1967 فشلومو غولن الذي سارع في الدخول إلى الحرم القدسي حيث سبقه اليهود إلى ما يسمونه حائط المبكى أي البراق الذي يعتبرونه جزءاً من الهيكل القديم بعد تدميره من الرومان فكل من دايان واشكول حكام “إسرائيل” آنذاك ابقيا الأقصى والحرم تحت سلطة الأردن أو السلطة الهاشمية أو تحت تبعية الأوقاف الأردنية في الأمور الدينية أما السلطة الأمنية والسيادية فهي لقوى الاحتلال، هذا الأمر على بساطته أغضب المتدينين والجماعات الدينية والقومية المتطرفة مع حديث عما سمي توحيد القدس فنظر من قبل الجماعات الدينية والقومية إلى ذلك الأمر شذراً واعتبروه تقصيراً أولياً فيما يتعلق بالمسجد الأقصى ساعد على القبول بهذه الفكرة.
جزء من اليهود المتدينين كانوا يقبلون بهذا الحل لجهة أن اليهودية الحريدية وهي تمثل جمهوراً واسعاً غير متأكدة من مكان وجود الهيكل بالضبط ولذلك كان مقبولاً لدى الأوساط اليهودية غير المتشددة أنه يمكن زيارة ساحة الحرم دون الصلاة فيه لأن الصلاة مرتبطة بمكان وجود الهيكل وهو أمر غير متيسر لحد الآن وأن دخول بناء الحرم والهيكل لن يحدث دون وجود علامات من بينها البقرة الحمراء وأن الشخص المؤهل للصلاة في الهيكل هو كبير الحاخامات والكهنة وهذا أيضاً غير متيسر الآن هذا الأمر مرتبط باليهودية الحريدية أو التقليدية بشكل عام، إضافة إلى معارضة الاكاديميات التقليدية كالتي أسسها الربي يهودا كوك فهم والحاخامية الرسمية يرفضون فكرة الدخول للحرم والصلاة فيه حتى بناء الهيكل الثالث، فقط بعض الجماعات الدينية الاستيطانية المنحدرة من فكر يهودا كوك وغوش ايمونيم وما يتفرع عنها ويتزعمها الآن يهودا غليك الذي يتصور معه بعض العرب هذه الجماعات تدعي أنها حددت بالضبط مكان الهيكل وهي تقوم بحفريات تحت المسجد الأقصى لهدمه وهم الذين كانوا وما زالوا يريدون دخول باحة الحرم للصلاة فيه علماً أنهم حصلوا على موافقة لزيارة باحة الحرم كسياحة وليس مسموح لهم الصلاة فيه.
ولكن ما يحصل حالياً هو دخوله والصلاة فيه وصولاً لهدمه وهدم المسجد الأقصى ليس مطلب الصهيونية الدينية وإنما الصهيونية المسيحية وهي أول من طالب به مسيحي صهيوني استرالي لأنه عند طائفة من المسيحية هو الأساس لظهور (المسيح المنتظر) وهناك متحف أقيم في “إسرائيل” مهمته جمع التحف وإجراء مسابقات لبناء الهيكل وكيف سيكون وتخيل شكل البناء الجديد ويقال أن نموذج الهيكل المنوي إعادة بنائه هو حاضر وجاهز الآن.
من هنا لابد لنا من فهم ما يجري وأنه بالنسبة لليهود فإن مسألة هدم المسجد الأقصى هي قضية وقت فقط وفرصة سانحة من الناحية الدينية بطبيعة الحال هذه الحركات المتطرفة التي نشأت قبل عدة عقود وفي مراحل مختلفة هي ذاتها موجودة اليوم في الانتخابات الأخيرة وفي الساحة السياسية الإسرائيلية ويمثلها شخصيتان بتسلال بيستريتش وهو يوناني وهو يقول إن مفتاح السلام يجب أن يكون على اليمين واستبعاد التحالف مع عبء الداخل لتشكيل الحكومة، وأشد منه شراسة من هو منحدر من حركة الربي كاهانا وهو يجاهر بذلك وله دور كبير في التجييش ضد الفلسطينيين في الفترة الأخيرة بيتامار بنغرين، فمن يتابع نقاشات هؤلاء وما يطرحونه من أفكار يدل بما لا يدع مجالاً للشك أن “إسرائيل” ماضية في المستقبل نحو هذا التوجه فهذا الكيان يسير ويتجه منذ أكثر من 60 عاماً نحو التدين ومحاولة حل الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني وفق أسس دينية توراتية لا تترك مجالاً لفلسطينيي الداخل ولا لمقدساتهم أي مكان والأخطر من ذلك أنهم بدؤوا يتحدثون عبر كتابات أن هذا الصراع هو أساساً صراع تاريخي بين إسماعيل واسحق فكما تم استبعاد إسماعيل من ميراث أبيه إبراهيم، يجب استبعاد هؤلاء الفلسطينيين الذي يسمونهم ورثة إسماعيل او اشماعيل من أي حظوظ في بلد كنعان في فلسطين، ولعل ما يجب النظر إليه هو أن الجانب الديني هو بعد أساسي في هذا الصراع بالنسبة للصهاينة، وعلينا أن تتذكر أن سفير الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة داني دانون كان قد رفع وحمل نسخة من التوراة بأجزائها الثلاثة أي التناخ مشيراً فيه عن مشروعية وشرعية ما أسماه (دولة إسرائيل) بأنها مستمدة من التوراة أي من الرب وليس من القانون الدولي أو ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها فهذا سند ملكيتنا- دفتر خانه – إلهي وليس وضعي أممي وهذا يتم في معقل القانون الدولي أي تستعمل الحجج الدينية لإثبات حق تاريخي في فلسطين.
إن الغاية من هذا الحديث يتم بحكم الاهتمام بهذه القضية فلا أحد يقول إن الصراع هو صراع ديني وليس صراع بين أديان ولكن ما يجري في الواقع ومن الطرف الإسرائيلي فإن هذا الصراع يسير بهذا الاتجاه منذ خمس وستين سنة، وهذا الاتجاه سيحدد طبيعة الصراع بالمستقبل خاصة إذا بقي اليمين المتطرف الحابوتنسكي وهذه الصورة الدينية المنحدرة من حركات الاستيطان غوش امونيم ومتفرعاتها إذ ما بقيت هذه التوليفه وهي ستبقى لأن الواقع في الكيان أن اليسار مهلهل ومنقسم ومتشظٍ وضعيف وغير قادر على أن يجمع نفسه، ما يجعل الأمور تسير في المستقبل نحو الصراع الديني، وإذا كان لا يتم التعبير عن ذلك عبر الخطاب السياسي فيجب أن يفهم المهتمون بهذا الصراع أن الدين الذي بدأ كنضال ايديولوجي بالنسبة لتلك “الدولة” ثم أفرغ من ذلك يعاد تشكيله وفق تلك الخلايا الدينية والقومية المتطرفة، ولعل غلاة الاستيطان تغلغلوا في كل أوساط المجتمع الإسرائيلي في الجيش وفي الصناعات وفي الكنيست وفي التعليم ووحدات النخبة ومراكز الأبحاث وكل مظاهر الحياة في ذلك الكيان، ولهذا نجد الشارع الإسرائيلي في مجمله لا يرى مانعاً من أن تكون السيطرة لهذا التيار.